Saturday, November 17, 2012

بحث مشترك : أحمد حامد نصر والماحي سعد الماحي عن حضارة كرمة --- السنة الخامسة 2008 م - جامعة الخرطوم قسم الآثار - اشراف الدكتورة انتصار صغيرون الزين

كانت النوبة بالنسبة للمصريين سابقاً  أرضاً أجنبية، وقد تمنى كل المصريين أن يموتوا ويدفنون في مصر، ولكي يشجع المصري للاستقرار في النوبة كان من الضروري له أن يعتقد بأن النوبة كانت دائماً جزءاً من مصر لذلك فبعد الغزو مباشرة شرع الفراعنة في بناء معابد رئيسية للآلهة المصرية في كافة أحاء النوبة، وقد بني الملك أمنحتب الثالث ورمسيس الثاني معابد لهم في صولب وأبو سمبل على التوالي، ومع مرور الوقت وبشكل متسارع أسست بلدات مصرية بالغرب من المعابد، واستقر المصريين وتزاوجوا نوبيات وتبنى الكثير من النوبيين من الطبقات العليا عادات مصرية ولغة وكتابة مصرية.
انتشرت حضارة كرمة في منطقة دنقلا العرضى (دنقلا الحديثة) ووصلت شمالاً حتى منطقة مرجسة وجنوباً وصلت إلي جزيرة أرقو 32 كلم شمالي كاوا.
كان يتم قديماً بناء قلاع هائلة في المواقع الإستراتيجية علي طول النيل لحماية الحدود الجديدة وإدارة المقاطعة فكانت تقع القلاع علي ضفاف النيل وفي الجذر وكان التصميم المعماري والبناء ينفذ طبقاً لتضاريس المنطقة، لقد عكست التفاصيل الدقيقة الحركية لنظام الدفاع علي وجه الخصوص – مستوى عالي لفن العمارة العسكرية حيث تضمن العديد من العناصر التي لم يعرف لها مثيل حتى العصور الوسطى وقد ظهر ذلك في الأسوار العالية والمتاريس والخنادق والأبراج والبوابات الهائلة الحصينة وبعضها مزود بجسر متحرك، وكانت تضم من الداخل جزءاً خاصاً بالإداريين ومخازن وثكنات ومحلات ومعابد صغيرة خصصت لعبادة الآلهة المصرية.
ويشير نظام الدفاع في القلاع الكبيرة مثل قلعة بوهين إلي أنها صممت لصد الهجوم من ناحيتي الصحراء والجنوب.
عن كرمة:
كانت حضارة كرمة محطة لأنظار الباحثين والعلماء، فعندما بدأ رايزنر حفرياته في الموقع استرعى انتباهه معلمين رئيسيين، الدفوف الغربية – المدافن الشرقية إلي الشرق من الدفوف الغربية.
فالدفوف الغربية عبارة عن بناء ضخم من الطوب غير المحروق له سلم يقود إلي أعلى إضافة إلي غرفتين علي الناحية الشرقية، واعتبره رايزنر حصن يتم اللجوء إلي أعلاه لمواجهة الأعداء، ولكن هذا الرأي لم يجد القبول لاحقاً، فأشار وليم أدمز بأنه برج لمراقبة السفن وتوصل بونيه إلي الحقيقة في أنه يمثل نوعاً من النصب الدينية. (صورة رقم 1).
جنائز كرمة المعمودة شمال سمنة لها صفة محددة شائعة بينهما فأغلبيتها العظمى مرتبطة بالقلاع المصرية الكبرى أو في حالة أبوسر بنقطة مراقبة مصانة في تواقف مع القلاع، تبدو الخلاصة مما لا يمكن الهروب منه  أنه في مكان ما، أثناء تاريخها كانت القلاع تدار جزئياً بقوات كرمة التي جاءت أو أحضرت من موطنها البعيد لذلك الهدف.
كيف كان الوقت والظروف المتعلقة باحتلال كرمة للقلاع؟
إن كل المعثورات تشير بما لا خطأ فيه إلي وقت متأخر في المرحلة الانتقالية الثانية – بافتراض أنها كانت مواكبة لأوج كرمة نفسها.
يقع هذا نظرياً بين الاحتلالات المصرية الرئيسية للقلاع، مع ذلك يبدو من غير المحتمل أن الكرميين كانوا هم المحتلين الوحيدين لهذه الهياكل العظيمة – من الصعب علي 22 رجلاً أن يديروا المتاريس في مرقسة ويبدو أن اتباع كرمة في القلاع الأخرى كانوا لا يزالون جماعة صغيرة يمكن أيضاً أن تكون هنالك قبور مصرية في مرقسة وغيرها مما يعود تاريخه إلي نفس فترة كرمة.
الإثبات المتوفر يوحي بأنه أثناء فترة الهكسوس كانت قلاع النوبة السفلى تدار بكوادر صغيرة من مسئولي الدولة المصرية تدعمها بعض من القوات الوطنية، إلا أننا نعرف أن أوامر الملك المصري في طيبة لم تكن تمتد وراء أسوان وأن الحاميات في النوبة لم تكن تابعة له.
الخلاصة المعقولة الوحيدة هي أن كل من المسئولين والرجال القائمين بالحراسة كانوا في خدمة ملك كرمة، ويبدو هذا الأمر مثبتاً أيضاً في لوحة سيدهر.
"لقد كنت قائداً جسوراً لبوهين و... أنني بنيت معبد حورس رب بوهين لإرضاء حاكم كوش" فالظاهر أنه في أثناء رفعه سلطانهم حل حكام كرمة محل الفرعون نفسه كأعلى أسياد للنوبة السفلى وتجارتها كانت هذه الحالة من الشئون بلا شك هي التي أثارت ولي العهد الفرعوني في طيبة بسبب شكواه الشهيرة "أنني أجلس متحداً مع أسيوي ونوبي كل رجل ممتلك شريحة من مصر هذه".
المدافن الملكية التليدة العظمي والصروح المعمارية لكرمة فيما يظهر تنتمي إلي المرحلة الانتقالية الثانية عندما كانت قوة النوبيين تنمو بالنسبة لحالة الضعف والانقسام الجارية في مصر.
التجارة مع الدلتا هي التي جعلت الملك النوبي والنبلاء مزودين بسلع الترف المستجلبة والتي حرفتهم ليتركوا طريق التجارة مفتوحاً نحو الشمال بإنشاء حاميات صغيرة في القلاع المصرية السابقة في النوبة السفلى ومن أجل صون هذه التجارة وتمديدها ربما أضطلع الملك النوبي بمشاريع عسكرية وتجارية مكثفة في الأراضي التي لم تزل بعيدة صوب الجنوب.
خارطة لموقع حضارة كرمة

وبالرغم من أنه لا يعرف الكثير عن آلهة النوبيين ومعتقداتهم دينية قبل مجئ المصريين، فإن بعض الدلائل من كرمة تكشف أن الكوشين كان لديهم دين متطور وربما عبدو الشمس مثل المصريين، كذلك ربما عرفوا الشمس كسلف أواب لملكهم الحي والذي آله مثل الفرعون أيضاً، هناك أيضاً سبب للاعتقاد بأن الدين المصري والكوشي ربما بدأ بالاندماج تحت ملكوك كرمة أنفسهم.
العقيدة الآمونية النوبية وفرضية الأصل النوبي للملكية المصرية:
بعد غزوهم لكوش، أسس المصريين إلههم الأعلى آمون في كافة أنحاء النوبة، هذه العقيدة العائدة لطيبة في الأصل، نمت بشكل واضح في الحكم وأثرت على الأسر المالكة في طيبة ومدت لهم سنوات حكمهم كان آمون ببساطة إلهاً محلياً، أصبح فيها بعد ملك الآلهة، وكان يعتقد بأنه إله الخلق والخصوبة وفيضان النيل والشمس والملوكية وأب الفرعون الخاص ويجعل الملك نفسه قديساً، بالرغم من أن طبيعته الحقيقية كانت غامضة ومخفية، فقد مثل آمون في الفن عادة كرجل بجلد أزرق وملابس الذهبية وتاج ذهبي مريش طويل، أما في النوبة فقد ظهر علة نحو متزايد في شكل جديد كرجل برأس كبش، ومتوج مع قرص شمس.
بالرغم من أن الكرنك ملجأ آمون الرئيسي في مصر فقد أسس المصريين مراكز جديدة لعبادة في النوبة  الأكثر أهمية  كان في نبته عند جيل البركل الذي  أطلق عليه المصريون اسم الجيل المقدس وهو المكان الذي يعتقد أن الإله يسكن داخله.
أكثر أجزاء الجبل تميزاً هو حافته العليا لنوبية المنحدرة فقد أدت البحوث الأخيرة لكيندل أن هذه الصخرة الهائلة حملت من قبل تمثال للكوبرا رمز الملوكية فعند رؤية الجبل من أشرق في صورة ظليلة فإنه يبدو مثل رأس ملك عملاق يلبس تاج الكوبرا، الشئ الذي أسس لتقليد بأن هذا كان المكان الذي جلب فيه آمون الملوكية أولاً إلى الأرض، بهذا الفهم جعل الفراعنة المصريون هذا الجبل البعيد في النوبة أحد أقدس الأماكن من إمبراطوريتهم فبنو عنده مركز تتويج وجاءوا إليه لاستلام تيجانهم من الإله.
بعض الآلهة المصرية التي عبدت في كرمة:
- الإله حورس حيث وجد معبد لحورس في بوهين.
- الإله الشمس وجد في مدخل الدفوفه الشرقية إله الشمس راع ونماذج تشبه الفلك السماوي لراع.
- إله في شكل إنسان ورأس بقرة وجد منحوت في مساند المقاعد وبالغرب  منه علامة العنخ وهواله محلي ويشبه آلهة مصرية.
- الإله التمساح وجد مرسوم في الأواني الفخارية وفي شكل تماثيل من الطين.
- فرس النهر وجد في زخرفة الأسرة وهو يمثل إله الخصوبة.
- الإله الحية.
- الإله الكبش وجده في القبور يدل على فكرة دينية مرتبطة بها وهناك رأي أن الكبش لم يعبد وإنما لعب دور الوسيط أو كان يقدم كغربان.
عبادة الكبش في السودان ربما سبقت عبادة آمون في مصر وبالتالي يكون آمون ذواصل محلي أو عبادة الكبش في كل من مصر و السودان قد نشأت بشكل مستقل.
أيضاً الملك ربما كان يعبد في فترات كرمة القديمة في جزء من كرمة من القرية  الثانوية حيث كانوا يعبدوا بعد وفاتهم.
المباني الدينيه بكرمه:ـ 
أولاً: المقاصير الجنائزية:
البساطة التي تميزت بها المباني القديمة تجعل البحث عن مؤثرات خارجية غير ذات مغزى، وإبان كرمة الكلاسيكية يظهر بوضوح التأثير المصري وتعرف أن ملك كوش لم يتحرج في استخدام أحد الخبراء المصرين لتشيد أحد المعابد المهمة (في بوهين) وفي النصف الأول من فترة كرمة الوسيطة بنيت الأكواخ والعشش، التي كانت مخصصة لإجراء طقوس وابتهالات للأموات عثر كذلك على حفر عديدة أمام هذه المباني  في هذه المنطقة من المقابر تعود إلى فترات قديمة تشير إلى وجود أماكن طقوس وطريقة عبادة بدائية، شيدت من الأخشاب والقش شكلها غير معروف لدينا، أقدم مبنى حتى الآن يقع بالقرب من القبر كـ 115 وهو قبر دائري قطره يبلغ 6 أمتار محاط بدائرة من الحجارة السوداء وعلى الجانب الشمالي دفنت 129 رأس للأبقار وفي الجهة الغربية وجد أساس بناء مستطيل طوله 1.4 متر وعرضه 0.9 يبدو أنه كان لأغراض جنائزية يمتد شمال جنوب وبابه يتجه نحو الجنوب غالباً.
وتقع في وسط مقابر كرمة ثلاث مقابر دائرية ذات أحجام كبيرة للغاية بالنسبة لفترة كرمة الوسيطة، وعلى الجانب الأيسر من كل قبر عدد من جماجم الأبقار ما يشير إلى الصفة الملوكية لأصحابها، وعلى الجانب الغربي للقبر الأوسط توجد غرفة مربعة طول ضلعها يبلغ 4.25 – 4.28 متراً ويبلغ عرض حائطها حوالي 0.6 مما يشير إلى ارتفاع كبير  لسورها ويسند سقفها بواسطة صف من الأعمدة وسط دعامات من الطوب والأرضية ملونة بلون أحمر على أحد زوايا المبنى غرست أنبوبة من الذهب، كذلك قطع من الفخار الدقيق النادر ويقع بابها على جهة الجنوب ويخترقها ممر من الطين المطروق في وسطها يقود إلى صف أعمدة وهو ميزة معمارية تنتشر في مبانى كرمة الدينية كنسق بنائي وتكون القواعد الدائرية من حجر المرمر، والتي تحمل أعمدة خشبية ونسبة لندرة هذا النوع من الحجر فقد خصصت المباني الدينية.
وعلى نفس هذا النسق توجد غرفتان مربعتان متجاورتان في منطقة كرمة الكلاسيكية تم الكشف عنها شمال غرب ك 147 الملكي تبلغ أبعاد كل منها ما بين 3.30- 3.50 متر وعرض الحائط 36 متراً ولها باب نحو الشمال ويشير وعاء صغير من الفيانس (القاشاني) وعدة أواني فخارية حطمت عند أثناء عملية تقديم الغرابين السائلة إلى طبيعة استعمال هذه الغرف المزدوجة إبان فترة كرمة الكلاسيكية.
وشهدت فترة كرمة الكلاسيكية ازدهار بالمملكة مما أنعكس كذلك على الاحتفالات الجنائزية فشيدت المقصورتان (ك 11 و 2) بالقرب من الآلهة الملكية إلى جهة الجنوب من أماكن الدفن على شكل كتل ضخمة من الطوب اللين  متناثرة بالنموذج المصري سواء المسطبة أو المعبد واستقل البناء السقفي المقبب من الداخل، وتهيئ من المقصورة  رقم 11 المثال الحي للتطور المعماري، بنيت المقصورة أولاً كغرفة واحدة ضيقة من جراء زيارات من سمك جدرانها من الداخل وتنتهي في الجهة الشمالية بشكل محرابي مستدير.
أضيفت قطعة أخرى أمام المقصورة الكبيرة بنيت هذه الإضافة على نفس النسق المعماري مكونة من غرفة واحدة ذات أطوال متواضعة الدفوفة الشرقية (أو العليا).

الدفوفه الشرقيه (اوالعليا):ـ
في أرض الجبانة وبالقرب من الكومة ك 10 عثر رايزنر على بقايا مبنى ضخم من الطوب اللين  أطلق عليه اسم ك11، هذا المبنى  له شكل مستطيل أبعاده 52 × 31 متر وارتفاعه الذي كان قائماً آنذاك  10.8 متر وهو يتكون من غرفتين ضيقتين طويلتين تتصلان بعضهما البعض بواسطة ممر ولكن لهما مدخل واحد في منتصف الغرفة الواحدة يوجد صف من الأعمدة وفي إحدى الغرف وجدت بقايا لتمثال كما وجدت آثار مناظر ملونة على الجدران، تميز البناء بجدران سميكة جداً حوالي ثلاثة أمتار الأمر الذي دفع رايزنر ليقول أن ك 11 ربما كانت تتكون من طابقين، بالغرب من الكومة الأخرى الضخمة ك3.
عثر رايزنر على مبنى مطابق لـ ك 11 لكنه كان في حالة خربه  فأطلق عليه ك2، المبنيان ك 11 و ك2 على بعضها صارا يعرفان بالدفوفة الشرقية بعد أن انتهي من وصفهما خلص زايزنر إلى أن المبنيين عبارة عن معابد جنائزيه بتلك الكومات المجاوره لهاوربمااستعملت لوقت طويل لعمل الطقوس لعدد من المدافن لكنه أضاف أن شكلهما يختلف من شكل المعبد الجنائزية المصرية المعروفة كثير من الكتاب ممن  تناولوا موضوع الدفوفة الشرقية بعد رايزنر أمثال أوكونور وادمز وفينيج امنو على رأي رايزنر  باختلاف الدفوفة الشرقية عن أي مبنى مصري بل أن ادمز قال بأنه لا يوجد لها مثيل في أي مكان آخر في العالم بما فيه السودان وعن طبيعتها قال أن علوها يشير إلى أنها كانت تستخدم لمراقبة الجبانة.
في مقال ثاني له نشره عام 1984م تراجع اوكونور عن قناعته الأولي وقال انه وجد النماذج التي قلدتها الدفوفة الشرقية وهي كثيرة ذكر منها معبد مصري موجود الآن في موقع بمصر يقال له(عزبة رشدي) ،ان وجود الاثر المصري في معمار الدفوفة الشرقية لا ينكره أحد لكن القول بأنها تقليد لمباني مصرية فهو إدعاء لم ينجح اوكونور في إثباته.
الدفوفة الغربية (السفلى:)      
تقع على بعد 2 كيلومتر شرق النيل وهي بذلك تحتل موقعاً استراتيجياً وسط المدينة حيث قامت بقية المنشآت من حولها في كل الاتجاهات، الدفوفة بشكلها الحالي عبارة عن كتلة ضخمة من الطين اللين أبعادها حوالي 52 متر في الطول، 26 متر في العرض و 17.5 متر في الارتفاع.
المباني الوحيدة التي وجدت داخلها هي درج ضيق يؤدي إلى سطح الكتلة وغرفة واحدة صغيرة جداً في طريق الدرج يوجد منتصفها ممر ضيق مسقوف.
حول قاعدة الدفوفة من الناحية الغربية عثر رايزنر على بقايا غرف صغيرة مستطيلة الشكل وجد بداخلها عد كبير من البضائع المصنعة من مصرية ومحلية.
فيما يتعلق بطبيعة المبنى اعتقد رايزنر أن الدفوفة قصر محصن أقام فيه حاكم كرمة المصري، بعد حفريات البعثة السويسرية التي بدأت في أواخر السبعينات أتضح أن هذه الكتلة الضخمة ما هي إلا المرحلة الأخيرة من عدة مراحل بناء، أولي المراحل وأقدمها كانت مبنى مستطيل الشكل يشبه ك 2 له مدخل واحد من الناحية الجنوبية وبناء دائري الشكل من الناحية الشمالية، في مرحلة ثانية بنيت وحدات جديدة من الناحيتين الغربية والشرقية للمبنى ثم بني سور حوله كل هذه المباني فصارت معزولة عن الأبنية الأخرى في المدينة، في المرحلة الثالثة وقد تزامنت مع كرمة الكلاسيكية الحق بتلك المباني مبنى كبير أبعاده 23متر × 8 متر كما بنيت واحدة جديدة من الناحية الغربية الجنوبية، المرحلة الرابعة والأخيرة هي التي نشاهدها الآن نتجت عن هدم الحيطان القديمة للمبنى الأصلي الارتفاع مترين ونصف المتر وقامت مكانها الكتلة الحالية وقد تم ذلك في بداية الدولة الحديثة، أن الدفوفة في شكلها الأخير تبدو كلغز يصعب تفسيره، في البداية أعلن رايزنر أن الدفوفة قلعة حصينة كان يقيم فيها حاكم كرمة يونكر وسيف سودر برج يعتقدان أن الدفوفة كانت مركزاً تجارياً محصناً يوافق على فكرة المبنى المحصن كل من اركل وكمب، الاستاذ ادمز وحده يرفض أن تكون الدفوفة السفلى محصناً لأنه كما يقول يسهل حصارها خاصة وأن لها مدخل واحد فقط ويرى اعتماداً على سمك حيطانها المبالغ فيه وعلى علوها إنهار بما كانت برجاً لمراقبة المراكب والقوافل القادمة من ناحية الشمال، لكنه لم يجد تفسيراً للمبنى الذي أضيف للدفوفة من ناحية الشرق وهو نفس السمك والعلو تقريباً أما الأستاذ بونيه فهو يبدو مقتنعاً تمام بأن الدفوفة السفلى وملحقاتها كانت المركز الديني لأهل كرمة، يعطي هذا أهمية كبيرة للغرفة الصغيرة والممر الذي يخترقها و اعتقد أنها كانت تستعمل كما تستعمل غرفة قدس الأقداس  في المعابد المصرية أما الغرف الأخرى فقال أنه كان يقام فيها الاحتفالات الدينية. أما السمك الزائد من الحيطان الغرض منه من رأيه حماية المعبودات من الأخطار.
إننا نتفق مع الأستاذ بونيه في أن الدفوفة في أطوارها الأولي ربما كانت فعلاً المركز الديني للمدينة (المعبد) لكننا نرى في شكلها الأصم الأخير ربما قصد تحويلها إلى جبل، ليس أي جبل عادي ولكن إلى جيل معين يحمل نفس الشكل لكنه يفوق الدفوفة في الضخامة وهو جبل البركل الذي اشتهر أكثر من الحقب التالية بقدوسيته وصار المركز الثاني لعبادة آمون في وادي النيل، أن قدسية جبل البركل أقدم من عهد الدولة الحديثة بكثير وان الكرمين كانوا يقدرونه وبما أنه يقع خارج نفوذهم فقد حاول أحد حكامهم المتأخرين صناعة جبل مثله فقام بتعديل معيد المدينة القديم إلى هذه الكتلة تقليداً بجبل البركل وصارت الدفوفة أقدس بقعة في المدينة أي أنها احتفظت بمكانتها الدينية القديمة بل زادت عليها.
صرح الدفوفة الغربية بكرمة
الحي الديني:
يقوم الحي الديني الممتد شرقاً وغرباً بخدمة المعبد مباشرة، كان هناك بهو كبير يفضي إلى معابد متعددة تكون الحي ويغطي مدخله صف عالي، كان البهو في شكله الأول ضيقاً والدعامات تعيق الحركة فيه، لكن فيما بعد أذيلت الدعامات وأصبح المكان رحباً وتحول إلى قاعة استقبال بل مكان لتجميع المواكب.
تم الكشف على مبنيين كبيرين مربعين بالزاوية الشمالية الغربية من الحي أكبر همالة فناء به رواق شيد بابه الجنوبي من صفين من الأعمدة يبلغ طول الجانب العشرة أمتار وله سقف من الخشب مرفوع على أعمدة بيت مباني الجزء الغربي الأخرى ما شيد ليقوم سكان المنطقة،يوحي شكلها المعماري بأنها منازل لعلية القوم، شبيهة بتلك التي عرفت في أوقات لاحقة كثيراً مثل فترة نبتة، يحتوي جزءه الأوسط على غرفاً للاستقبال وتحيط به الأجزاء الخدمية وبئر لمياه الشرب وتحضير الطعام.
والى الشمال توجد بقايا جدران تشهد بوجود صوامع قديمة تعود إلى فترة كرمة الوسيطة، ومقارنة بما نحن بصدده الآن يمكننا من أن نلحق دوراً دينياً لهذه المباني العتيقة،وعلى الجانب الجنوبيين توجد مجموعة مباني تتوارى خلف أحد الصوامع المربعة التابعة لها تحت الدفوفة وعند حفر هذا الأثر ظهر جلياً الطلاء الأحمر ملاصقاً بالأجزاء السفلى للجدران والأرضيات وبحالة جيدة، وتؤكد قوة اللون وزهوته أن المكان ليس للعبور بل كان مخصصاً للعبادة.
كما نشير إلى مبنيين تابعين للدفوفة، فالأول اختفى تماماً ما عدا جزء يسير من المحراب الدائري مشيد على طرفي البناء، أما المبنى الثاني فهو عبارة عن مبنى دائري ترقد في وسطه قاعدة دائرية من حجر المرمر الأبيض ويبدو المبنى شبيه بالأكواخ الدائرية الرفيعة لهذا المبنى، وان استعمال الحجر الذي كان نادراً ومتانة بناء الحائط الدائري و نوعية الأرضية من الطوب يدعونا أن نفترض دوراً دينياً أيضاً، ويدعم هذا الافتراض كبر القاعة ومحاذاتها للسلم الداخلي للدفوفة.
يمكننا من خلال استعراض العمارة الدينية من إدراك مدى التعقيد والتشابك الذي يكتنف تنظيم المؤسسات الملحقة بالعبادة، فكما هو الحال بمصر يقع المعبد في وسط مجمع كبير للمعابد، من المحتمل أن التأثير المصري لم يقتصر على الطابع المعماري فقط، كما نراه في مثال قرص الشمس المنحوت على القبة العلوية لمدخل الدفوفة الشرقية، بل تعداه وشمل أيضاً عمل المؤسسات الدينية بكرمة بالمقابل لم يمسح هذا التأثير المصري التقليد المحلية من بلاد عرفت بتدينها الكبير، بل وكانت هي الأصول الأولي التي انحدرت منها بعض المعبودات التي ضمها مجمع اللاهوت المصري. 
رسم شارلس بونية لمخطط كرمة
أهمية الحصون:
عرف الإنسان الحصون منذ الأيام الأولى في تاريخه عندما بني برج بابل... وكانت المعابد البابلية تحفل بالأبراج أو القلاع وكانت الأبراج تمثل حصوناً منيعة تقام علي الأسوار للمراقبة أو الدفاع. وكانت بعض الحصون تبنى منعزلة قائمة بذاتها وسط المدينة أو خارجها يحتمي بها السكان من وجه عدو مهاجم. وحتى في مزارع الكروم كانت تبنى أبراج صغيرة لحراستها ولحماية حارس الكرم من التقلبات الجوية. وفي كل دير من الأديرة القديمة يقام حصن لكي يلجأ إليه الرهبان عندما يأتي الهجوم عليهم. وكان عندما يغلق باب الحصن لا يقدر أحد أن يدخل أو يخرج. 
آثار النوبة:
في آثار النوبة عثر علي الكثير من الحصون العتيقة والتي كانت مهمة جداً وتؤكد حرص أهل النوبة علي حماية البلاد وكان من يتعرض للحصون يهاجم بوابل من سهام النبال تجعله يمضي سريعاً لأن المحارب النوبي هو من رماة الحدق الذين يعتزون بسلاح داؤد النبي وهو المقلاع.
الحصون التي اكتشفت في حملة انقاذ آثار النوبة:
1. اكتشفت البعثة الفرنسية حصن مرقسة العتيق والذي كان أكثر تطوراً من معبد بوهين وقد بني ذلك الحصن فراعنة الأسرة المالكة الثانية عشر في موقع ما بين بوهين وسمته لفرض حماية الطرق التجارية النهرية والبرية. وكان تصميم النظام الدفاعي يشابه تصميم بوهين لكنه أكثر حماية وربما أكثر أهمية منه وامتدت الجدران إلي مئات الأمتار في كل جانب وبها حواجز وفتحات يطلق المحاربون منها أسلحتهم وكانت حالة المساكن في حصن ميرقيس جيدة وبعضها أزدانت جدرانه الخارجية بتعاريج.
2. اكتشفت البعثة البريطانية في أعمال الحفر في مدينة بوهين النظام الدفاعي لتلك المدينة القديمة وألقت الضوء علي تصميمات وتخطيطات الحصون التي أقيمت لحماية المدينة وبحلول عام 1960 تم الكشف عن كل بقايا الحصون بعد أن أزيلت كميات كبيرة من الرمال.. وقد وجدت الأجزاء السفلى من أنظمة الدفاع محفوظة بحالة جيدة تحت الرمال ولكن الأجزاء العليا كانت متآكلة.
3. كشفت بعثة جامعة شيكاغو عن حصن عتيق قامت حوله في وقت لاحق مستوطنة مسيحية وقامت البعثة من جامعة شيكاغو بالتنقيب عن حصن عتيق في جزيرة (دروفناتي) عند طرق الشلال الثاني، وفي عام 1966 كشفت عن حصن في منطقة سمنة بنيانه متين ونظامه الدفاعي مهول.. وحوت أوراق البردي التي وجدت في معبد رمسيس بالأقصر  لحصن نوبي وقد تخرقت حروف اسم الحصن ويرى أن سمنة جنوب هي الحصن المفقود.
4. يرى دكتور نجم الدين محمد شريف في كتابه إنقاذ آثار النوبة أن ما تم اكتشافه من حصون أمكنه أن يعطينا معلومات عن النظام الدفاعي في المملكة المصرية الوسطى بالإضافة إلي إعادة تشييد القلاع والتغيير في نظامها في الدولة الحديثة، كما صار من الممكن رسم الشكل الأصلي لهذه الحصون علي درجة عالية من الدقة وذلك من خلال المباني القديمة التي تم العثور عليها في أرض النوبة قبل أن تغمرها مياه السد العالي ويرى أن هذه الحصون والقلاع تشبه ما عرفته أوربا في العصور الوسطى. 
تحصينات كرمة:
شيّد سكان كرمة السياجات الخشبية المصنوعة من مواد متعددة حماية لهم من الأعداء، وقد اشتهر النوبيون بشدة مراسمهم في الحرب، ففي الدولة المصرية القديمة كون الرماة النوبيين القوة الرئيسية في سلاح الشرطة والحفر كمرتزقة ومن خلال دورهم هذا تعرفوا علي فن الاستحكامات الحربية الفرعونية وكانت كرمة المستفيد الأول من التطوير و التحديث الذي تقوم به الإستراتيجية الحربية المصرية ومن جانبهم لم يكن المهندسون النوبيون ينقلون النماذج الشمالية بحذافيرها لكنهم طوروها وأدخلوا فيها العديد من التغيرات لتلاءم متطلباتهم المحلية، وهنالك سلسلة من الحصون المنيعة للحدود الجنوبية لملوك الإمبراطورية المصرية ومن بين مهام الجند المرابطين بهذه الحصون مراقبة السكان النوبيون ورصد تحركاتهم، ولعبت المدن التي شيدت دوراً مزدوجاً لإدارة هذه القلاع وخلق آلية للتبادل التجاري، هكذا شيدت معسكرات علي طول مجرى النيل عند الشلال الثاني وفي حالة كرمة أعلى الشلال الثالث، فلما يمر السهل المنبسط إمكانيات الدفاع والحماية وهذا ما عمل له حسابه المهندسون.. من جانب آخر فقد أجبر موقع عاصمة المملكة مخططي المدينة ليأخذوا في  الاعتبار مناطق السكن، والأعمار الواسعة نسبياً ولإحاطتها بأسوار وخنادق لحمايتها (صورة رقم 2) وقد أدى الضغط السكاني القوي إبان فترة كرمة الوسطى إلي التوسع في الإنشاءات الدفاعية بجانب المباني العامة والهامة.
أوضحت الحفريات وبقايا كتل من الخشب ذات أقطار كبيرة علي الجزء الجنوبي من الدفوف وأشارت إلي أن المركز الحضري الأول لكرمة كان محاطاً بسياج يحمي وسوف يمتد البحث للكشف عنه والتأكد من ذلك.
وقد شيد في وقت لاحق سور محصن حول المدينة، عرض عدة أمتار يمكن تتبع آثاره علي مدى الموقع. ومن الجانب الآخر الخارجي توجد حفر يستدل منها علي وجود سياج من أعواد الخشب لحماية البناء من التقويض ولتنفيذ هذه الحماية الضخمة استعمل الطين والطمي بدلاً من الطوب الذي شاع استعماله بالمسكن وهذه طريقة بناء ما تزال متداولة حتى اليوم بالمنطقة وما حولها وتعرف محلياً باسم "البناء بالجالوص"
إبان كرمة الوسطى اتخذت المدينة أبعاداً هامة امتدت الخنادق الجافة علي طول السور وتشير آثارها علي شكل غير منتظم (صورة رقم 3) توجد به أبراج نصف دائرية قطرها يتراوح ما بين 30 إلي 50 متر وكان تراب الخنادق التي امتدت حسب تمدد المدينة يذهب لبناء الأسوار للتحصينات وكانت هذه الخنادق تحفر بعمق يصل إلي 3 – 5 أمتار وبعرض 10 – 15 متراً. وقد تأثرت هذه الخنادق من الرمال التي تحملها الرياح وأحياناً بما تحمله مياه النيل إضافة إلي أطلال المباني المندثرة وتوجد صفوف من الحفر علي الحوافي الداخلية للخنادق كانت توضع بها أعواد لحماية أساس السور المحيط وما يعمل الآن في أعمال الأسوار الحالية يمكننا علي أقل تقدير من تفهم تفاصيل الأنظمة الدفاعية والتي لابد وأنها مرت بتطورات كثيرة.
في فترة كرمة الكلاسيكية 1580 ق.م حدثت تطورات كثيرة متعددة في تقنية المنشآت العسكرية بدولة كوش وإن هذا المعمار لم يكن ليستجيب فقط للامتدادات السكنية والتمدد الحضري بل أتى بنظام دفاعي لا يقل عن عدة نقاط من النظام الذي طوره عدوه المصري.
أبرزت الخارطة العامة للمدينة الأهمية التي أوليت إلي المداخل التي تعود إلي الأبواب الرئيسية تركت مساحات واسعة كفضاء، ومن هنا وهناك فقد زيد في ارتفاع الأسوار بحيث يسهل مراقبة الدخول والخروج.
ثم نمت الأحياء الجديدة بينما كانت الخنادق القديمة تندرس من جراء أطلال المنازل وأجزاء أخرى تحفر علي امتداد أو توسع في الأنظمة الدفاعية. وتمددت المساحات للفضاء خارج البوابات مما أعطى المدينة شكلاً متقطعاً.
نحو شمال الطريق الذي يقود إلي الأحياء الشرقية أعد مكان كأساس متين من الحجارة يكون أحد نقاط الدعم للنظام الدفاعي لكرمة في الفترة الكلاسيكية، ولقد شيدت هذه الوحدة علي بقايا خندق قديم مدفون وتحتوي علي جدار سمكه حوالي 1.5 متر دعمت بدعامات غير متساوية، أحد الأبراج متقدمة والآخر بارز لمسافة 4 متر والثالث له جدار عريض والرابع بني ليحمي القلعة من ناحية الجنوب، بنيت الأساسات من الحجر الرملي النوبي، بحيث برزت من فوق سطح الأرض في شكل قاعدة متينة مقاومة جاءت حجارتها من المحاجر التي تبعد 20 كليومتر. خفضت منطقة المدينة السكنية التي أقيمت علي الخنادق والتوزيع والترتيب الحربي حيث أقيمت في أحد زوايا البرج مخابز يقدم إنتاجها كقرابين للمعابد والاستهلاك المقر الملكي.
وطريقة حراسة المدخل الجنوبي للمدينة توضح مدى تصعيد الدفاعات مرتكزة علي برج دائري وعلي خندق قديم من فترة كرمة الوسطى أقيمت أسوار من الطوب اللبن بطول 13 متر وعرض 7 أمتار ومن الجانب الشرقي نجد أن سور له جزء بارز ثم يغطي بعضه بطوب أحمر محروق وتثبت هذه الزخرفة بواسطة سلسلة من الدعامات العرضية التي تزيد من متانة السور الرئيسي. وفي وقت لاحق بني حائط أمام الاستحكامات التي وضعت آنفاً كان أساساً من الحجارة بارتفاع أكثر من 3 أمتار وتسند دعامات قوية علي هذا الحائط الجديد الذي يجاور أحد الخنادق.
توضح لنا هذه العناصر الجهد الكبير الذي بذله الملك وأعوانه لحماية مدينتهم.
فإن اختفت الآن كثير من المظاهر العسكرية تماماً فذلك كان من جراء الخراب المنتظم الذي تعرضت له أثناء الحرب، وقد ثبت لنا هذا التلف الحي من خلال آثار الحرائق وتحطيم الأسوار وتمدنا هذه الخنادق بمدى الجهد الذي بذله عبر القرون. حيث توضح لنا كيف أن المجمع كله أحيط من جميع جوانبه بنظام دفاعي وأن مداخله كانت محمية بأسوار سميكة، حيث كانت تعلو حوالي العشرة أمتار مما يجعل هذه العاصمة منيعة ومجمل ما تشير له الخطوط النفسية هو أن مكان ما ذا أهمية تهيب الجيش من الهجوم عليه وأن هذا لا يمكن أن يكون إلا الجيش الفرعوني. إن هذه المخاوف يبررها الاحتلال الذي جري في فترة الأسرة 18 بل إن التغيرات المتأخرة التي جرت في أنظمة الدفاع بكرمة تعرض لنا بأن الغزاة لم يستطيعوا أن يدركوا غاياتهم إلا بثمن غالي وصعوبة فائقة.
مدن وأسوار:
منذ الأيام القديمة تبنى الأسوار حول كل المدينة وذلك حماية لها من الغزاة، وكان لكل مدينة مداخل محددة تسمى أبواب المدينة، وعند مدخل المدينة، يقام برج مراقبة لكي يراقب الغزاة عن بعد وينبه رجال المدينة للخطر القادم. وأسوار المدن أمر معروف جداً لدى حضارات متعددة، وهكذا نسمع الكثير عن أسوار المدن.. ويعرف الناس جيداً سور الصين العظيم حيث لم يكن يدخل غريب إلا بإذن من الإمبراطور.
سور دنقلا:
قامت في السودان ثلاث ممالك مسيحية هي مملكة النوباط في المنطقة الممتدة من الشلال الأول إلي الثالث وعاصمتها فرس والثانية هي مملكة المقرة وعاصمتها دنقلا وامتدت جنوباً إلي كبوشية، والثالثة مملكة علوة وعاصمتها سوبا. وكان الملك يقيم في دنقلا العاصمة ويقولون عن دنقلا أنها العجوز واعتقد أن هذه الترجمة غير صحيحة لأن دنقلا هي العتيقة أو القديمة ذات العبق التاريخي الموغل في القدم.. مثلما يسمى المصريون مصر القديمة أو مصر العتيقة والتي هي أقدم أحياء مصر حتى الآن.. وكانت دنقلا مدينة عظيمة ذات أسوار.
ويذكر الأب فانتيني في محاضرة له أنه من الاكتشافات المثيرة في دنقلا اكتشاف حائط عظيم مصنوع من الطين والحجارة حول دنقلا بارتفاع أربعة أمتار وبعرض ثلاثة أمتار في بعض الأماكن.. ويستنتج من هذا أن مدينة دنقلا كانت مدينة محصنة ومركزاً ذا تنظيم جيد.. ويتساءل فانتيني متى كانت محصنة ممن ماذا؟؟
فالحروب كانت شائعة لذلك لابد من ارتفاع من سور عظيم يحميها ضد الغزاة وسور دنقلا العظيم يؤكد ما ورد بكتابات المؤرخين العرب عن الغزوة العربية الثانية ضد دنقلا عام 651م وكيف فشل العرب في احتلال دنقلا واضطر عبد الله بن أبي السرح من عقد معاهدة البقط.. ولكن خلال هذه الحملة قام العرب بإلغاء حجارة مع استعمال المنجنيق لتدمير السور العظيم مما أدى إلي أضرار بالغة في كدرائية دنقلا. وقد خرج ملك دنقلا من الأسوار وعقد معاهدة البقط مع العرب ويبدو أن النوبة أعادوا بناء هذا السور العظيم ولهذا كانت دنقلا عاصمة عتيقة ولها سور ضخم حتى لا يدخل أحد إليها وعلي الأخص من الغزاة.
نموذج لعمارة عسكرية:
قلعة الحصن في محافظة حمص السورية من أروع ما ابتدعته فنون العمارة العسكرية وتعد من أعظم قلاع العالم وأشهرها من حيث منشأتها الدفاعية ومواد بنائها وهندستها الفريدة التي تحمل مزيجاً من حضارات الشرق والغرب.
تحتل قلق الحصن موقعاً استراتيجياً مهماً فوق جبل ارتفاعه 750 متر وعلي بعد 60 كليو غرب مدينة حمص، تمتد القلعة مع خندقها علي مسافة 240 متر من الشمال للجنوب و 170 متر من الشرق للغرب وتقدر مساحتها بثلاثة هكتارات وتتكون من حصنين داخلي وخارجي بينهما خندق وحولهما خندق يشرف عليهما جميعاً قصر تحمي أبراج وتتسع القلعة لحامية تعدادها حوالي 3 آلاف محارب مع عتادهم وخيولهم ومؤنهم. كما للحصن ثلاثة أبواب مفتوحة علي الخندق يمتاز بأبراج عالية وأسوار سميكة تقاوم الزلازل والمهاجمين وهي لم تبني دفعة واحدة ولم يكن لها طابع واحد وقد جرى توسيعها عدة مرات وتناولتها الأيدي بالترميم والتحصين وأخذت أسماء متعددة (حصن السفح) و (حسن الأكراد) و (حصن الفرسان) وأخيراً قلعة الحصن.
اتضح أن هنالك نوعان من البناء في كرمة:
1- البناء بالأخشاب كأكواخ دائرية أو مستطيلة وهي المعروفة ببلاد النوبة منذ فترات ما قبل التاريخ والفترات التاريخية.
2- البناء بالطوب اللبن أو المحروق وكثيرا ما يشاهد الاثنان معا في مبني واحد باعتباره طراز معماري مركب.
من الواضح إلي مساكن النوع الأول بين من أعواد خشبية ومواد مستهلكة خفيفة كمساكن ثانوية وقد يعتبر الكوخ لأكثر من 14-25 سنة وهي سريعة التشيد كما أنها سريعة الدمار وذلك في حالة تعرض المدينة لأي أخطار فهي أول ما يتعرض للتلف ولا يبقي منها إلا الدمار 
كما انه يطول زمن الاستيطان السكني للمحل الواحد وتكثر بذلك إعداد حضر الأعواد المتثبتة مما يصعب دراستها كأحياء حاكم بونيه 1997م 
فترة ما قبل كرمة:
الاستيطان في فترة ما قبل كرمة:  
في مقاطعة تبعد حوالي أربعة كيلومترات من مجاري النيل الحاكم تم اكتشاف مستوطنة تعود للألف الرابع قبل الميلاد وآثار هذه المستوطنة عبارة عن حضر عديدة بمختلف الأحجام أغلبها حضر حيث يبلغ قطرها ما بين 10-15سم وهي بالتأكيد حضر أعواد خشبية لبناء الأكواخ ، التي رصت علي شكل دائري يتراوح قطرها بين 4-5 أمتار وأحيانا قد تبلغ الثمانية أمتار بالإضافة إلي أنه لم توجد أي آثار لدعامة في الوسط "شعبة" لتسند السقف.
كما مترا أيضا علي حفر اكبر حجما وأقل عددا حوالي 140 حفرة يتراوح قطرها بين 30-40 سم " صورة رقم 1" يرجع أنها كانت داخل الأكواخ كمخازن للغلال الشونة" مثلما هو معمول به اليوم في كردفان ودارفور حيث يبدو أن هذه الحفر تأثرت بعوامل التعرية الطبيعية بالإضافة لمفعول الأرضة ومن الملاحظ أن بدار الحفر الكبيرة احمرارا من آثر النار وعثر علي جراء وأوعية من الفخار في بعضها وجدت آثار لبقايا الطعام ... أنظر الصورة رقم (2) والفخار الذي وجد شبيه بفخار المجموعة النوبية الأولي المجموعة"أ" التي كانت معاصرة لها بلا أو في شك ولم يعثر علي أي آثر لفخار مصري مستورد كما هو حاصل في حالة المجموعات النوبية المذكورة وعليه وبناءا علي ذلك يفضل استعمال مصطلح " ما قبل كرمة" تمييز لهذه الحضارة .... حاكم بونية " المرجع السابق" 
فترة كرمة القديمة:
المباني الخشبية بالمدينة القديمة:
في النصف الثاني عن الإلف الثانية ق.م نسبة للجفاف زحفت الحركة السكنية من السهل الشرقي إلي الغرب بالقرب من النيل حيث تم الكشف عن طبقات متلاصفة بعضها فوق بعض وذلك لظهور آثار 6 أكواخ متتالية شيدت في نفس المكان وتوالت السكني فيه خلال فترات لاحقة وبنفس المواصفات حتى نهاية كرمة الكلاسيكية 15 ق.م ويبدو أن هذا النوع من السكن كان منتشرا علي امتدادات وساحات شاسعة جنوب كرمة وشرقها وغربها.   
وإلي الجنوب الغربي من الحي الديني وجد بناء دائري ضخم وعالي إذ يبلغ ارتفاعه حوالي عشرة أمتار ويجمع هذا المبني ما بين مواد بناء الخشب والطين وحمل سقفه علي ثلاثة صفوف من الأعمدة الخشبية كما عثر علي حفر كثيرة عند المدخل تشير إلي وجود رواق شيد من أعمدة خشبية وبالداخل آخذت مقامات لفرقة كبيرة والتي تبلغ مساحتها اثني عشر متراً مربعاً، بالإضافة إلى وجود غرف صغيرة وممرات ضيقة بنيت في المراحل المتقدمة من البناء من الطوب الأحمر يحيط بهذا المبنى سور من الخشب. ويعود تاريخ هذا المبنى إلى حوالي 2000 ق.م. "أنظر صورة رقم 3". هذا الطراز من المباني منتشراً في بعض أجزاء القارة الإفريقية (المرجع نفسه).
مباني الطوب اللبن بالمدينة القديمة:
من حوالي 4000 سنة مضت شيدت منازل من الطوب اللبن بشكل غير منتظم. حيث يبلغ ارتفاع الحائط 2-3 أمتار والسمك حوالي 18 سنتمتر ولها دعامات بالنسبة للتقوية. وسقفه من جذوع النخيل والجريد والسعف أما الباحة الأمامية للمنزل توجد تعريشة أمامية "راكوبة" مكان للنار وتخزين الطعام في حفر التخزين "الشونة" التي لها قاعدة دائرية صلبة أنظر "صورة رقم 8" بعد ذلك حدث توسع في بناء المنازل فظهر الفناء الواسع ومكان مخصص لزريبة المواشي، ويحاط الكل بسور متعرج وهذا ينعكس على شوارع وأزقة كرمة فهي لا تسير بصورة مستوية وذلك نسبة لطبيعة البناء (المرجع نفسه).
فترة كرمة الوسيطة:
فقد حدث في هذه المرحلة نقلة مهمة في المعمار النوبي حيث دخل لأول مرة استعمال الطوب اللبن بصورة مفردة في تشيد المنازل السكنية والمنشآت العامة وصار ينتشر بسرعة كبيرة ومن ناحية أخرى استعمل الكرميون الحجارة والطوب المحروق بالطريقة الموسعة التي أتبعت في كرمة والتي لا يوجد لها أي مثيل في ذاك الوقت ولا في وادي النيل ولا أي مكان آخر في العالم المعروف آنذاك، (بونية 1978م. 1982م) وبالتدريج أخذت قرية كرمة المتواضعة ببساتطها تتحول إلى مدينة تحوي كل مواصفات المدن المعاصرة في الشرق الأدنى فظهرت المباني العامة الكبيرة الحجم "الدفوفوتين" أو المعبد الرئيسي للمدينة الذي احتل موقعاً استراتيجياً في وسط المدينة. وقد أنشئت من ناحية الشرق والغرب مباني كثيرة أصغر حجماً بعضها مباني إدارية لتجارة الضرائب والبعض الآخر يتصل بالمعبد فقد انتظمت حول المعبد مجموعة من المنازل تميزت بغرفها الضيقة والطويلة التي يعتقد أنها مساكن الكهنة والموظفين الملحقين بخدمة المعبد (بونية 1984م).
وفي باحة مساحتها 16م2 من الناحية الشمالية الشرقية بني مخبز المدينة الرئيسي وملحقاته. وذلك لوجود أعداد كبيرة من قوالب الخبز "رقيف". كما أكشف داخل هذا المبنى على بئر عميقة جدرانها الداخلية بطنت ببلاطات كبيرة من الحجر الرملي. مما تدل هذه البئر على أنها مصدر دائم للمياه لأهل كرمة. كما أنه تم الكشف على آثار مصنع للأدوات البرونزية الصغيرة في وسط المدينة.
بدأت تظهر في آثار هذه الفترة بعض المباني المميزة التي يعتقد أن لها علاقة كبيرة بنظام الحكم مثال لذلك كشف عن آثار مبنى أطلق عليه بونية أسم القطية العظيمة "يمثل هذه المبنى موقعاً استراتيجياً في وسط المدينة في مكان تلتقي فيه كل الطرق. لقد وصف المبنى بأنه قطية لأن الآثار التي بقيت منه كانت مجموعة من أساسات جدران ذات شكل دائري ولأن أعداد كبيرة من الحفر كانت ظاهرة في أرضية المبنى. أما الأعمدة الخشبية "الشعب" التي كانت تقف داخل هذه الحفر فلم يبقى منها أثر. من الناحية الشمالية الغربية خارج منطقة الحفر شيدت غرفتان مربعتان وجدت بداخلها آثار مواقد مما يشير إلى أنها كانتا تستعملان لأغراض المعيشة، ويحيط بكل هذه المباني سور دائري مبني من الطوب المحروق. (بونية 1986م). أما عن تاريخ استعمال القطية" يعتقد بونية أنها استعملت لفترة طويلة تمتد بين سنة 2000-1500 ق.م" تقريباً وعن وظيفتها قال أنها كانت مقر حاكم كرمة الذي يجتمع فه برعاياه. وهي شبيه في هذه الدور الوظيفي بالقطاطي الموجودة اليوم في دارفور وجنوب السودان الذي يجتمع فيها السلاطين برعاياهم (بونية المرجع السابق) "أنظر صورة لشكل تقريبي لإعادة بناء  "رقم 5- رقم 4"
أما عن منازل فترة كرمة الوسيطة يمكن تصنيفها في ثلاثة أنواع:
النوع الأول: منازل بنيت من الطوب اللبن تحتوي علي غرفتين أو ثلاثة غرف تميزت جدرانها بسمك عريض ولوحظ على بعضها آثار درج مما يرجع وجود طابق ثاني، ويلاحظ على هذا النوع من المنازل أن أكبر الغرف حجماً تكون معزولة عن الأخريات وتكون أقرب لمدخل المنزل ويدخل إليها من خلال باب في النصف الشمالي، وربما كانت لاستعمال الرجال وبقية الغرف تكون محجوبة عن الانظار ويحتوي علي بقية المنافع كالمطبخ الذي يوجد في الجزء الشمالي الغربي، وفي ركن اخر من المنزل توجد حظيرة للحيوانات "زريبة".ومزيرة لمياه الشرب ومكان لممارسة احد الحرف. وآخر لإشعال النار حتى داخل الغرف وكانت تعطر هذه الغرف باستعمال المباخر "أنظر صورة رقم 6" ويحيط بكل هذه المباني سور مستطيل أو شبه دائري من الطوب اللبن (بونية 1984م).
النوع الثاني: فهو عبارة عن منازل من الطوب تتكون من غرفة واحدة واسعة طويلة بالإضافة إلى وجود المطبخ الذي يكون على شكل راكوبة في فناء المنزل ومزيرة، حظيرة حيواني "زريبة" وعدد من الشونة لحفظ الغلال، وجداران المنزل في هذه النوع من البناء لا يزيد عن 8سم تتخللها دعامات بين كل مسافة وآخرين لتقويتها وسقوف المنازل كانت مشيدة من جذوع شجر النخيل وجريدة كما هو الحال اليوم في شمال السودان.
النوع الثالث عبارة عن منازل تتكون من رواكيب "جمع راكوبة" فقط بنيت من الطين والأخشاب. (سامية بشير 1999م).
فترة كرمة الكلاسيكية:
وفي هذه الفترة توسعت الوحدات مجدداً. وأضيفت عليها إضافات في بعض منها وللأخرى بقيت كما هي.
في أثناء هذه الفترة تم استعمال الطوب المحروق الذي "قوة " به جدران العديد من المباني وذلك لكي تكون أكثر سماكة. حتى المنازل وأسقفها أصبحت عالية جداً والأسوار العالية كونت الأقة والممرات الطويلة الضيقة.
ومن ناحية المكونات الداخلية للمنزل فقد تزايدت أحجام الشونة وقسمت إلى جزأين بحائط عرضي (حاكم بونية 1997م). "أنظر خريطة رقم 2".
في هذه الفترة أيضاً تم الكشف عن العديد من القصور الملكية وأحدها القصر الملكي الذي اكتشفته البعثة السويسرية في حفريات موسم 1991-1992م وحتى اتضح أن تاريخ إنشاء هذا القصر يعود إلى حوالي 1600 ق.م. قبل ذلك اكتشفت على ما يبدو أن الأسرة الحاكمة كانت تقيم في المبنى المدور أو "القطية العظيمة" التي ذكرت آنفاً.لقد تم استخدام الطوب الآجر في بناء كل محتويات القصر الذي يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء رئيسية. (بونية 1993م).الجزء الأول يقع ناحية الشرق يحتوي على غرف السكن حيث يقيم الملك وأفراد أسرته، ويتم الوصول إلي القصر بواسطة ممر من الناحية الشمالية ثم ينحرف هذا الممر عند اليمين وينتهي إلي باب يؤدي إلي ساحة داخلية حيث توجد ثلاثة غرف وبرندة . ومن مؤخرة هذه القصر من الناحية الجنوبية الشرقية توجد ساحة أخرى دائرية الشكل وربما وجد باب آخر في الجدار الجنوبي من المبنى.
في الجزء الثاني من القصر يقع في الوسط حيث توجد حجر العرش The Throne room  التي يصل إليها بواسطة ردهة تنتظم إلى جانبها عدد من الغرف الصغيرة. حيث تتكون حجرة العرش من غرفتين متصلتين ببعضهما البعض. يصل ارتفاع جدرانها إلى حوالي خمسة أمتار وهي شبيهة إلى حد كبير بالدفوفة الشرقية. يوجد مدخلان منفصلان يؤديان إلى الغرفة الأولى التي يتوسطها من الداخل ثلاثة أعمدة ضخمة لحمل السقف. وفي الغرفة الثانية توجد الوطيدة التي يجلس عليها الملك. ويتم الوصول إلى هذه الغرفة عبر درج أو ممشي منحدر.
بالإضافة إلى أنه توجد وطيدة أخرى في الجانب الآخر من نفس الغرفة ربما ليجلس عليها ضيوف الملك. (بونية، المرجع السابق).
 أما الجزء الثالث من القصر يقع من الناحية الجنوبية الغربية وأهم ما وجد في هذه الجزء صومعتان "شونة" ضخمتان في الأرض لحفظ الغلال حيث يبلغ قطر الواحدة منها حوالي 7 أمتار ومن خلال ما تشير غليه بطاقة التخزين أن وزن الواحدة منها ثلاثة طن من الحبوب (المرجع نفسه). وربما وجد في هذه الجانب من القصر زريبة للحيوانات المنزلية. بالإضافة إلي وجود عشرة مخازن متراصة في خط واحد بجانب بعضها البعض.
كما ظهرت في هذه الفترة الكلاسيكية أبنية جديدة التي اصطلح على تسميتها بالمعابد الجنائزية التي كانت تشير في الجبانة بالقرب من كومات الملوك. وهي عبارة عن مباني ضخمة وعالية بنيت من الطوب المحروق حيث كان دورها الوظيفي اتخاذها كمزاد للملك المتوفي للاستمرار في تقديسه ربما التقرب إليه وعبادته. ( سامية بشير، 1999م).
وبالنسبة لتحصينات المدينة فقد اهتم سكان كرمة بحماية أنفسهم ضد هجمات أعدائهم ومنذ فجر التاريخ فقد شهدنا تشيدهم للسياجات الخشبية المصنوعة من مواد متعددة، أما التحصينات الخارجية للمدينة فقد وجدت أسوار ضخمة تحيط بمباني المدينة العامة. بنيت أساساتها من الحجر على عمق ثلاثة أمتار بينما استعمل الطوب اللبن لبناء الأجزاء القائمة، ويحيط بالسور من الداخل فندق جاف لتوفير مزيد من الحماية تلك المنشآت. (بونية، 1986-1990م) لذلك الغرض أقيمت في المداخل والشوارع الكبيرة أبراج مستطيلة الشكل للتأمين ومراقبة شاملة لمداخل المدينة.
طبقات المجتمع في كرمة
نعتمد في دراستنا لمعرفة مجتمع كرمة على ما وجد في مقابر ومساكن ومحتوياتها.
 كرمة القديمة: 2500-2050 ق.م.
ما من شك أن بعض الكرمين قد عرفوا الحياة الحضرية المستقرة منذ البداية يدل على ذلك آثار مدينتهم التي قامت على الضفة الشرقية للنيل لكن بجانب الفئات المتحضرة والتي كانت أعداها آخذة في ازدياد بمرور الزمن وجدت مجموعات أكبر من مرحلة كرمة القديمة كانت تمارس حياة بدوية أو شبه بدوية ومن الجائز أن النظام الاجتماعي السائد آنذاك كان أشبه بالنظام الذي وجده حرخوف وسط المجموعة "ج" وهو نظام الزعامات أو المشيخات. ومجتمع الزعامات أرقى من المجتمع القبلي حيث تتحدد مجموعة من القبائل أو البطون التي تنحدر من أصل واحد لتكون زعامات. هذه الزعامات تتقاسم السيطرة والنفوذ على رقعة جغرافية محددة وبالتالي تكون مواردها محددة تحول دون بلوغها مرحلة المملكة.
المؤشرات إلى بساطة مجتمع كرمة من مراحله المبكرة كثيرة تأتي في مقدمتها بساطة المدافن التي يصعب تميز مدافن للحكام من بينها لا من حيث الشكل أو الحجم ولا من حيث الأثاث الجنائزي نفس الشيء يمكن أن يقال عن المنازل فلم تكتشف هذه الفترة مباني مميزة، فالجميع على ما يبدو كانوا يسكنون في قوى من القطاطي والرواكيب والخيام. أما المباني الأخرى العامة فمعظمها يعود تاريخ بنائه لمرحلة كرمة الوسطى. آثار كرمة من هذه الفترة كانت متنشره بين غيبة في النوبة السفلى وبين بقدومبوش في النوبة العليا وهي بهذا الوضع في النوبة السفلى تمثل مرحلة انتقالية بين آثار حضارة المجموعة "أ" وآثار حضارة المجموعة "ج" قرايتان، 1974م،45 وما بعده".
أظهر نمط حفر الأعمدة والمواقد أن موقع الإقامة هذا تألف من مساكن دائرية مجمعه بكثافة يبلغ قطر الواحد منها خمسة أمتار وكانت في الغالب ذات  شكل مخروطي ومسقوفه بالقش تشير بقايا المنازل التي سجلت في الموقع إلى وجود نوع من المساكن التي ما زالت تميز مواقع الإقامة الفردية في مناطق السودان إلى الجنوب من سنار وفي جبال النوبة "القطاطي"
كرمة الوسطى: (2050 – 1750 ق. م).
في هذه المرحلة حدثت نقله مهمة من تاريخ مجتمع كرمه من المتغيرات التي ميزت هذه الفترة تطور ملحوظ في عادات الدفن فقد توسعت حفر القبور وصارت دائرية الشكل وظهر تنوع في محتوياتها. كذلك بدأت تنتشر في هذه المرحلة مصنوعات برونزية صغيرة من صنع محلي مثل المرايا والسكاكين والخناجر وقد كشفت البعثة السويسرية عن المصنع الذي كان يمد السكان بإنتاجه من المصنوعات. شاعت كذلك عادة تقديم القرابين الحيوانية كما ظهرت عادة دفن الجماجم الحيوانية تحت تراب الأكوام. أما الأكوام نفسها قد كبرت أحجامها فوجدنا منها ما يصل قطر دائرته إلى 10 أمتار والحقت ببعض الاكوام غرف صغيره مربعة الشكل اعتقد أنها أول أنواع المعابد الجنائزية التي تطورت بصوره كبيرة في مرحلة كرمه الكلاسيكية "يونيه 1990، 10" من ناحية المعمار دخل لأول مرة استعمال الطوب اللبن في تشيد المنازل السكنية والمنشآت العامة وصار ينتشر بسرعة شديدة. من ناحية أخرى استعمل الكرميون الحجاره و الطوب المعروف في تشيد أسوار مدينتهم وعن هذا التطور كتب الأستاذ بونيه أن استعمال الطوب المحروق بالطريقة الموسعه التي اتبعت في كره لا يوجد له إي مثيل في هذا الوقت لا في وادي النيل ولا في أي مكان آخر في العالم المعروف انذاك بونيه 1978، 110، و 1982، 5" بالتدريج اخذت قريه كرمه المتواضعة تتحول إلى مدينة تحتوي على كل مواصفات المدن المعاصرة في الشرق الأدنى فظهرت المباني العامة الكبيرة الحجم الدفونة الغريبه أو (معبد المدينة الرئيسي ) التي احتلت موقعاً استراتيجياً في وسط المدينة وقامت حولها من ناحية الغرب والشرق مباني عامة كثيرة أصغر حجماً بعضها يتعلق بإدارة التجارة والضرائب والبعض الآخر يتصل بالمعبد. وقد انتظمت حول المعبد مجموعة من المنازل تميزت بغرفها الضيقة الطويلة التي يعتقد أنها مساكن الكهنة والموظفين الملحقين بخدمة المعبد" بونيه 1984، 7"
ظهور التفاوت الطبقي في كرمه الوسطى:
الطبقة العليا أو الطبقة الحاكمة:
تبعاً لهذا التطور المادي الهائل تغيرت تركيبة المجتمعة فظهرت مجموعة من الأفراد تمثلت في أسباب الثراء والرفاهية أكثر من غيرها. يبدو كذلك أن تطورات هامة قد طرأت على نظام الحكم الذي بدأ يسير في اتجاه التعقيد فلم يعد الحاكم رئيساً لمجموعة محدده لكنه صار له معاونون ومستشارون وعدد كبير من الزوجات والجواري والأولاد وعدد أكبر من الخدم والتابعين. وقد بدأت تظهر في آثار هذه الفترة بعض المباني المميزة التي يعتقد أن لها علاقة بنظام الحكم "القطية" وصف المبنى بأنه قطية لأن الآثار التي بقيت منه كانت مجموعة من أساسات جدران ذات شكل دائري ولأن أعداد كبيره من الحفر كانت ظاهره في أرضية المبنى أما الأعمدة الخشبية "الشعب" التي كانت تقف داخل هذه الحفر فلم يبقى منها أثر من الناحية الشمالية الغربية .خارج منطقة الحفر شيدت غرفتان مربعتان وجدت بداخلهما آثار ومواقد مما يشير إلى أنهما كانت تستعملان لأغراض المعيشة يحيط بكل هذه المباني سور دائري من الطوب المعروف. أما عن تاريخ استخدام القطية يعتقد بونيه 1986، 15 أنها استعملت لفترة طويلة تمتد بين سنة 2000 – 1500 ق.م تقريباً وعن وظيفتها قال أنها كانت مقر حاكم كرمه الذي يجتمع فيه برعاياه لمناقشة أمورهم العامة . مع تميزها في الحياة الدنيا تميزت الطبقة الحاكمة كذلك بعد الممات فظهرت في فترة كرمه الوسطى أكوام ذات أحجام كبيره نسبياً وهذا يعني بالطبع حصد أكبر في تشيدها وعماله توفرت لصاحبها دون سائر الناس فيما يتعلق بمحتوياتها، وبالرغم من أن معظمها فتح ونهب ما بداخله من نفائس إلا أن ما تبقى يكفي للتدليل على أهمية أصحابها. من ذلك مثلاً أعداد الضحايا الآدميه والحيوانية التي لوحظ أنها تزيد كلما كبر حجم الكوم. لا حظ مثلاً أن أميراً من امراء كرمه الوسطى بعد وفاته كان بإمكان أسرته أن تستغنى عن 500 رأس من الماشية ثم ذبحها عند وفاة الأمير ودفنت جماجمها حول كرمه "بونيه 1990، 4).
الطبقه الوسطى: أن وجود أكثر من طراز وأكثر من حجم للمنازل بقوى من اعتقادنا بوجود تفاوت طبقي بدأ يظهر في مجتمع كرمه الوسطى بالتدريج ولكنه اتضح بصوره أكبر من المرحلة الكلاسيكية يمكن تصنيف المنازل في كرمه الوسطى إلي ثلاثة أنواع:
أ/ منازل من الطوب اللبن تحتوى على غرفتين أو ثلاثة تميزت جدرانها بسمك ملحوظ ولوحظ على بعضها آثار درج مما يرجع وجود طابق ثاني.
يلاحظ على هذا النوع من المنازل أن أكبر الغرف حجماً تكون معزولة عن الأخريات يحتوى المنزل كذلك على بقية المنافع، في ركن آخر من المنازل توجد حظيرة للحيوانات يحيط بكل هذه المباني سور مستطيل أو دائري من الطوب اللبن. "بونيه 1984، 7".
ب/ منازل من الطوب اللبن تتكون من غرفة واحدة واسعة وطويلة بالإضافة للمطبخ، الذي يكون على شكل راكوبه والمزيرة وحظيرة وعدد من المطامير لحفظ الغلال جدران المنازل في هذا النوع الثاني لا يزيد سمكها على 8سم لكن كانت تتخللها دعامات بين كل مسافه واخرى لتقويتها، السقوف في هذا النوع من المنازل وبما كانت مشيدة من جذوع شجر النخيل وجريده كما هو الحال في شمال السودان اليوم. "د/ سامية بشير 1999".
ج/ منازل تتكون من رواكيب جمع "راكوبه" فقد بنيت من الطين والأخشاب. أليس من المعقول تفسير هذه الأنواع الثلاثة من المنازل بأنها تدل على وجود ثلاثة طبقات في المجتمع طبقة عليا ثريه وهي طبقة الحكام وأسرهم. وطبقه وسطى متوسطة الحال ويدخل فيها كل الموظفين والكهنة وبعض أصحاب الحرف. وأخيراً طبقة دنيا فقيرة وهي طبقة العبيد والتابعين وصغار الحرفيين لا شك أن هناك مؤشرات أخرى مثل عادات الدفن يمكن استعمالها في الدلالة على الفوارق الاجتماعية. فمن الواضح أن المدافن تتفاوت في أحجامها ومحتوياتها. فأبسط أنواع القبور دائرية الشكل لم تبني بها أي أبنية فوقية من الأساس ولا يوجد دليل على وجود ضحايا من أي نوع بداخلها. كذلك وجدت متوسطه الحجم والآثاث وأخرى كبيره الحجم ومتميزة بمحتوياتها الداخلية.
كرمه الكلاسيكية: "1750 – 1575 ق.م"
النقلة المهمة في حياة مجتمع كرمه حدثت في هذه الفترة فقد تجلت في هذه الفترة قوة الملك وجبروته وقد انعكس ذلك في الآثار والنصوص على حد سواء إذا بقينا في نطاق الآثار تؤرخ لهذه الفترة بالتأكيد أضخم المدافن التي وجدت في جبانة كرمه وهي ك3، ك4، ك10، ك16، ك18، ك19، ك20، وقد اجمع العلماء مؤخراً على أن الثلاث الأوائل هي مدافن لآخر ثلاثة ملوك حكموا في كرمه. لقد أذهل رايزنر ضخامة تلك المدافن السبعة وقال إنها أضخم مدافن وجدت في وادي النيل على الإطلاق حيث تتفوق في مساحتها للأرضية على المساحة الأرضية في أهرامات ملوك الدولة المصرية القديمة والوسطى "رايزنر التقرير الأول، 65" وأنه من المؤسف حقاً أن هؤلاء الملوك العظام لم يتركوا كتابات تساعد على التعريف أكثر بهم بالرغم من أنه كان تحت تصرفهم عدد من الموظفين المصريين الذين يجيدون الكتابة باللغة المصرية أن هذا الواقع يدفعنا للتكهن بأن الأسباب الحقيقية التي منعتهم من استعمال الكتابة لا تمت بصله لتوفر الكاتب أو عدمه، أن قيام هذه المدافن الضخمة بمحتوياتها المختلفة يعتبر واحداً من عدة مؤشرات تأتي في هذه الفترة لتأكيد على وجود سلطه قويه متجبرة "نظام ملكي" في كرمه استطاعت أن تسخر لخدمة إغراضها ليس فقط في العمالة بل بكل موارد المملكة بما فيها البشر أن الخوف من الملك واجلاله ربما وصل إلى مرحلة التقديس في ذلك الوقت وربما كان هذا التطور هو العامل الرئيسي وراء ظاهرة ازدياد أعداد الضحايا الآدمية في قبور الملوك.
ومما يقود في هذا الاتجاه إلى تقديس الملك ظهور الأبنيه الجديدة التي اصطلح على تسميتها بالمعابد الجنائزية والتي كانت تشيد في الجبانة بالقرب من كوم الملك فإن هذه المباني الضخمة التي ظهرت في الآونة الأخيرة شكلت عبثاً جديداً على المجتمع من حيث الموارد والجهد المبذول لتشيدها وقد كان سبب ظهورها هو ازدياد قوة الملك المادية وارتفاع مكانته الآدبية والروحية.
مؤشر ثاني في هذه الفترة يدل على مكانة الحاكم وارتفاع شأنه هو القصر الملكي الذي اكتشفته البحثة السويسرية في حفريات موسم 1991م -1992م يعود إنشاء القصر الملكي الي حوالي 1600 سنة ق .م م قبل ذلك يبدو أن الأسرة المالكه كانت تقيم في المبنى المدور ولكن بحلول كرمه الكلاسيكية قد يكون الملك احس بأن قصره الدائري لم يعد يناسب وضعه المتميز وأنه يحتاج إلى نظير أكثر فخامة وحداثة كان هذا المبنى أكبر حجماً شبه مستطيل شيد من الطوب غير المحروق قد يفترض المرء أن المساكن المجاورة للقصر وفي وسط المدينة انتمت إلى الذين ارتبطوا من حيث مناصبهم أو مهمتهم بخدمة الملك أو بالمؤسسة الدينية وهم موظفيه وعائلاتهم والكهنة وخدم القصر والحرس الملكي. هذا القصر يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء رئيسية "بونيه 1993، 2-5" الجزء الأول يقع في الناحية الشرقية ويحتوى على غرف السكن حيث يقيم الملك وأفراد أسرته . الجزء الثاني يقع في ا لوسط وفيه توجد حجرة العرش "The Throne Room" وتنتظم بجانبها عدد من الغرف الصغيرة تتكون غرفة العرش من غرفتين متصلتين ببعضهما البعض يصل ارتفاع جدرانها إلى حوالي خمسة أمتار وهي تشبه إلى حد كبير الدفوفه الشرقية "ك11". الجزء الثالث من القصر يقع من الناحية الجنوبية الغربية وأهم معالمه "صومعتان" مطمورتان لحفظ الغلال قطر دائرة الواحدة منها حوالي سبعة أمتار أن إعطاء القصر وظيفة اقتصادية باحتوائه على مخازن لحفظ الغلال ولحفظ البضائع في هذا الجانب فقط نجد الشبه بينه وبين القصور المصرية.
في الآونة الآخيره تم الكشف في منطقة تمتد لمسافة كيلو متر إلى الجنوب الغربي من وسط المدينة داخل بهو بعض المنازل ثم العثور على حفر أعمده ذات أنماط دائرية مما يشير إلى نشؤ المزيد من المساكن الدائرية في الماضي. أحد تلك المساكن يبلغ قطره أكثر من عشرة أمتار وتنتمى في الغالب لشخص يمثل منصباً مهماً. مؤشر ثالث ربما ارتبط بتطور الملكية الكرميه الكوشيه هو ظاهرة التسوير التي بدأت منذ مرحلة كرمه الوسطى لكنها وصلت مراحل معقده في هذه الفترة. أن تسوير المدينة، شأنه شأن المدافن أو المنشآت العامة الأخرى، يتطلب تسخير كافة موارد البلاد وتسخير البشر لإنشائها الشئ الذي لا يمكن أن يقدر عليه إلا ملك قوي وحكومة قوية. أضف إلى ذلك أن تركيز التنوير في منطقة وسط المدينة حيث يقيم الملك وحيث توجد المباني الحكومية إنما يهدف لحماية الملك ومن بعده رموز الملك وهكذا تطورت كرمه الكوشيه من مرحلة الزعامة إلى مرحلة المملكة حيث تمكنت من توسيع حدودها الجغرافية بواسطة بيت منظم كما تمكنت من خلف نظام حكم مركزي قوى يهيمن عليه ملك مثوله أو شبه مؤله.
هذا بالنسبة للمنازل والقصور في كرمه المدينة. ولكن تم الكشف عن وجود سكن ريفي وهو قسم أربعة جنوب كرمة عبارة عن منازل من الطين وأكواخ "جاك رينولد1997م ". ظهر في مجتمع كرمه كذلك التفاوت الطبقي الذي هو من سمات المجتمعات المعقدة والاقتصاد المركب الذي يقوم على دعامة الزراعة والتجارة الخارجية. كان ينقص كرمه فقط نظام للتدوين والكتابة. ولكن نستدل على التجارة بوجود طبقة من التجار وأنه في زمان كرمه المبكرة غالباً ما يكون قد بدأ التجارة تجار مصريين مثل حرخوف وأبيه قاموا بزيارة المدينة أسسوا علاقات تجارية نيابة عن ملوك الاسره المصرية السادسة ثم الكشف ي مقابر كرمه الوسطى على خناجر ورؤوس فؤوس ومرآة مصنوعة من البرونز بأسلوب مميز يرجع إلي الأسرة المصرية القديمة كل تلك الموضوعات توفر مؤشراً علي الأقل لوجود صلات متقطعة مع مصر خلال الألفية الثالثة التجارة تمثلت في الأدوات البرونزية ومساحيق الزينة والأختام والخناجر المصرية حيث نجد أن مدينة طيبة في مصر العليا كانت بمثابة سوق للتنافس للحصول على السلع السودانية.
وبما أن كرمه تقع في سهل ضبط يغطيه الطمي ومثبت بالرمال ويمكن افتراض وجود الكثير من الحقول والمراعى مما يدل علي وجود طبقة من المزارعين والرعاة. فنجد ان حوض كرمة كان يمتلئ في الفيضان وبعد ذلك كان يسقي الاراضي ايضا تم العثور علي بقايا الحبوب النباتية في المواقع . اذن في هذه الحقول لابد انه تم رعي كمية من قطعان الحيوانات المختلفة والدليل علي ذلك وجود عظام الحيوانات بكميات في المقابر والمساكن .من هذه المقومات الهائلة للزراعة والرعي نستدل علي وجود طبقة من المزارعين في مجتمع كرمة. 
ايضا وبعد كل هذه المكانة للملكة كرمة واتساعها لابد وان لها جيش قوي حيث يدل وجود السهام والاقواس والسيوف التي اصبحت جزء من الاساس الجنائزي يعد الي ذاكرتنا شهرة الجنود الكويشين وتشهد آثار الجروح والتي وجدت على عظام كثير من الأفراد عدم الاستقرار هذه الفترة والهجوم العدائي ضد العاصمة حيث عثر على العديد من آثار الخراب والدمار وتوفر لنا الرسومات أيضاً الجنود النوبين واللذين جندوا في الجيش المصري من خلال نماذج من الخشب بالحفر البارز حيث تعرفنا على رماة السهام عليهم اوزارهم المزانة بمربعات ومطلية بالوان راقية وقلائدهم واسورتهم المصقوله.
نجد أيضاً أن الصناع والحرفيين شكلوا طبقة كبيره في مجتمع كرمه حيث عملوا في شتى الحرف والصناعات والمختلفة وكانوا بارعين ومتميزين. والدليل على ذلك فخار كرمه المميز الأحمر ذو الحافة السوداء الذي احتفظ بأصالته حتى النهاية والذي اشتمل على العديد من التصاميم الهندسية والزخرفات النموذجية التي تمثل ميزة السودانين ومهارتهم الفنية. في فترة كرمه الكلاسيكية أصبح أجمل وأجود فخار في العالم. أيضاً الصناعات الحجرية مثل الآلات المتخصصة كالمنجل والسهام والمخازن ترتبط هذه الأدوات التي عثر عليها بالصيد وحصاد الحبوب وعملية ثقب أدوات أخرى بالطحن والصقل وبكل ما هو متصل بالحرف الأخرى كالفخار والجلود وصناعة المقابض من الخشب أو العظام أ, العاج, العمليات الزراعية. أيضاً صقلت الحجارة للاستعمال المتخصص ومن الآلات الفؤوس ورؤوس ودبابيس القتال والقدوم الذي ارتبط أيضا بصناعة التجارة وأيضا أدوات الطحن كطحن الغلال ومواد التلوين وكان تحضير مادة المقره الحمراء كحجارة تدرش ثم تطحن وتعجن لاستعمالها في التلوين نشاطاً هاماً في مدينة كرمه خلال تاريخها الطويل ونسبة لوجود المصنوعات الجلدية فلا بد وانه يكون قد توفرت أدوات متخصصة من العظام والعاج مثل المغارز والمكاشط والابر والتي يحتاج إليها أيضاً في صناعة السلال والبروش وأيضاً صيد الأسماك.
كما أن كرمه تميزت بوجود فنون التطعيم بالعاج وتشكيل التماثيل المختلفة والرسومات. حيث كان فن التطعين بالعاج من سن الفيل او فرس البحر كانت تزان به قوائم وألواح الاسره الجنائزية بكرمه، أيضاً وجدت مجموعة كبيرة من التماثيل الطينية اثناء الحفريات الجاديه باشكالها المختلفة فمن الرسومات التي وجدت في الدفوفه كان هناك رسومات لمراكب صيد مما يدل على وجود الصيد الذي تشغله فئة في المجتمع.
ويبدو مما سبق أن بعض الصناع كانوا يعملون بداخل وبخارج المدينة حيث اعتاد هؤلاء الحرفيين أن يجاورا اطراف المنطقة السكنية. وفي هذه الحالة فإنه من الصعوبة بمكان أن نجزم بأن كل الحرفين يقيمون بداخل مصانعهم أو بالتحديد أن كان المصنع يحتل جزءاً من منازلهم. بلا شك فإن هذا هو الحال عندما تتواد الإداره والتنظيم داخل الأسوار ومع ذلك قد يتساءل المرء عما إذا كان كل سكان المدينة يعيشون داخل اسوار المدينة باستمرار؟
المراجع والمصادر:
1- أحمد محمد علي حاكم وشارلس بونية-1997 م – كرمة مملكة النوبة – تراث أفريقي في عهد الفراعنة- ترجمة صلاح الدين محمد أحمد.
2- خضر آدم عيسي – 2004م – تاريخ السودان القديم.
3- شارلس بونيه- صلاح الدين محمد أحمد- السودان ممالك علي النيل 1997م.
4- شارلس بونيه- صلاح الدين محمد أحمد- السودان ممالك علي النيل 1997م.
5- فرانسيس جيوز- ترجمة أسامه عبد الرحمن النور- مدافن المجموعة الثالثة (ج) .
5- Adams- 1977 – Nubia Corridor to Africa.                                                            
6- Edwards N-D-2004-The Nubian Past An Archaeology of the Sudan – London.
7- Nordstrom. H.A. 1972. Neolithic and A Croup sites. The Scandinavian Joint Expedition . Apsalla.
8- Bietak. M. 1987. “The C-group and the Pan-grave Culture in Nubia”. In: Hagg. T. (ed.), Nubian Culture, Past and Present. Stockholm: Almqvist & Wiksell. 113-128..Vol. 1. Cambridge: Cambridge University Press.
9- BONNET,C. (1987) ‘Kerma, royaume africain de Haute Nubie’, in T. Hagg (ed.) Nubian Culture, Past and Present, Stockholm: Almqvist and Wiskell.
—— (ed.) (1990) Kerma, royaume de Nubie, Geneva: Musee d’Art et d’Histoire.



Friday, November 16, 2012

ahmed.kabushia sudanese archaeological page: شندي قبل 5 ألف عام.. تطور من البدائية حتى القرى ال...

ahmed.kabushia sudanese archaeological page: شندي قبل 5 ألف عام.. تطور من البدائية حتى القرى ال...: من المتفق عليه في الوسط العلمي الآثاري السوداني أن فترة المدنية ظهرت خلال العصر البرونزي في السودان، مع أواسط الألفية الثانية قبل الميلا...
علم الاثنوأركيولوجيا
إيان هودر
ترجمة الراحل أ.د. أسامة عبدالرحمن النور
ديسمبر 2004هناك مصدر هام للتناظرات، رغم أنه وكما سنرى ليس المصدر الوحيد، يصعب إلصاق اسم به طالما أن كل كلمة شائعة الاستخدام تقريباً تجلب معها إثم. لكننا نأمل، إذا تحدثنا عن المجتمعات التقليدية المعاصرة الأقل تقدماً صناعياً، فإن المعنى الذي نرمي إليه يصبح مفهوماً. خلال الأربعين سنة الأخيرة بدأ علماء الآثار في القيام بأعمال ميدانية في المجتمعات التقليدية Traditional societies بهدف الوصول إلى إجابات على الأسئلة التي يثيرها التفسير الآثاري ومن أجل تطوير تناظرات واختبارها. هذا النوع من العمل هو ما صار يطلق عليه تسمية الاثنوأركيولوجيا (علم الآثار العرقي أو الاثني Ethnoarchaeology).
بداية دعونا نتناول بعض التعريفات. رغم أن الكلمة "اثنوأركيولوجيا" كانت قد استخدمت في عام 1900 من قبل فيوكس Fewkes فإنها أصبحت مصطلحاً شائعاً فقط في الآونة الأخيرة. مع ذلك هناك تباين في وجهات النظر فيما يتعلق بالمعنى. يعرفها كل من جوولد Gould,1978 وستيلس Stiles,1977 بأنها تعنى مقارنة المعطيات الاثنوغرافية ethnographical data مع المعطيات الآثارية archaeological data . يبدو هذا التعريف واسعاً بلا فائدة، بخاصة إذا تقبلنا حقيقة أن كل تفسير آثاري archaeological interpretation يشتمل على إقامة تناظرات analogies مع المجتمعات الحالية. وفق هذا التعريف يجوز، بالتالي، وصف كل تفسير آثاري تقريباً بأنه اثنوأركيولوجي. من جانب آخر، يعرف ستانسلافسكي Stanislawski,1974 الاثنوأركيولوجيا بوصفها مجال دراسة ويكون أكثر يسراُ الاتفاق مع وجهة نظر كهذه. الاثنوأركيولوجيا هي تجميع معطيات اثنوغرافية أصيلة بهدف تقديم مساعدة للتفسير الآثاري. هذا التعريف الثاني يتطابق أكثر من التعريف الأول مع الاستخدام الجاري حالياً. سوف يقدم عالم الآثار المكتبي المتصفح للمجلدات الاثنوغرافية رداً بالقول "أنني أقوم بعمل اثنوأركيولوجي"، أكثر من عالم آثار يقوم بنفسه ببحث اثنوغرافي ميداني.
هناك دائماً خلط فيما يتعلق بالعلاقة بين الاثنوغرافيا ethnography، و الاثنولوجيا ethnology، والأنثروبولوجيا anthropology وقد يكون من الضرورة بمكان توضيح تلك المصطلحات. الاثنوغرافيا هي الدراسة التحليلية للمجموعات الاثنية (العرقية) المعاصرة، دراسة لخصائص تلك المجموعات المادية، والاجتماعية، واللغوية. الاثنولوجيا، من ناحية أخرى، هي تطوير نظريات حول العلاقات بين خصائص المجموعات الاثنية وحول أسباب الاختلافات بينها. اتجهت الاثنولوجيا للاهتمام بالشعوب الأمية الأقل تعقيداً، تاركة بالتالي المجتمعات الصناعية المعقدة complex industrial societies للسوسيولوجيا sociology، والجغرافيا geography ..الخ. الأنثروبولوجيا هي سلسة علوم أكثر اتساعاً تهتم بدراسة الإنسان، تضم، في كندا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق علم الآثار، لكنها لا تضم هذا العلم في بريطانيا. الأنثروبولوجيا هي علم تعميمي يشمل كل من الاثنوغرافيا والاثنولوجيا.
العلاقة مع التناول التجريبي في علم الآثار (الأركيولوجيا التطبيقية practical archaeology) ليست المجتمعات التقليدية المعاصرة هي مصدر التناظرات الأوحد بالنسبة لعلماء الآثار. فالتناظرات يمكن اشتقاقها من دراسات الثقافة المادية material cultureفي كافة المجتمعات تقليدية غير معقدة كانت أم صناعية معقدة. لكن في المجتمعات الصناعية المعقدة يمكن لعلماء الآثار إنشاء تجارب اصطناعية بهدف استخراج المزيد من التناظرات مع الماضي. كل من الأركيولوجيا التطبيقية والتناظر الحاسوبي computer simulationالزائف يهتمان باختبار جدوى تفسيرات آثارية محددة. أنهما يختلفان عن الاثنوأركيولوجيا في أوجه عديدة. في المقام الأول، على سبيل المثال تجربة حرق الجرار في فرن بغرض استكشاف أي من الطرق والأفران كان من الممكن أن تكون قد استخدمت في الماضي يمكنها أن تكون تطبيقية بحق من حيث أن محاولات مختلفة يمكن تنفيذها، الظروف ودرجة الحرارة في الفرن يمكن التحكم فيها بدقة وتسجيلها، ويمكن التحكم في المتغيرات. تناظر عملية افتراضية لاستبدال ما قبل تاريخي في الحاسوب يمكن التحكم فيها بدرجة أكثر دقة، مع عدد أكبر من المحاولات واختبار أشد دقة للمتغيرات المختلفة التي يتم التطبيق عليها. في أي دراسة اثنوأركيولوجية، من الجانب الثاني، هنالك درجة أقل من التحكم. فالباحث هو مجرد ملاحظ وهو شخص يطرح أسئلة؛ إنه لا يستطيع أن يجرب هذا وذاك ليرى ماذا تكون النتيجة.

ما تفتقده الاثنوأركيولوجيا في مجال التحكم التطبيقي تكتسبه في مجال "الواقعية". لا يدرس عالم الاثنوأركيولوجيا بيئة مصطنعة قام بخلقها (مع أنه وكما سنوضح لدى مناقشة مناهج العمل الميداني أن شيئاً من التأهيل ضروري هنا). يمكنه أن يطابق حرق الفخار في فرن مع مجمل المحتوى الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، ويمكنه أن يلاحظ كافة المتغيرات المناسبة المحتملة. عالم الآثار التطبيقي، من جانب ثان، يقوم بخلق حالة مصطنعة، رغم أنه يبذل جهداً لخلق صورة طبق الأصل قدر المستطاع للمعلومة ما قبل التاريخية. يحاول عالم الآثار التطبيقي أن يتعلم ويطبق تقنيات حرفة هو غير معتاد عليها وهى حرفة قد نساها مجتمعه منذ أزمان طويلة. فوق كل هذه الصعوبات العملية، فإن التجربة تجرى في فراغ بحيث أن الارتباطات مع جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والأيديولوجية يصعب التعرف عليها. في حين قد يكون في مقدوره اختبار تأثيرات المتغيرات التقنية والطبيعية في تجاربه، فإن عالم الآثار التطبيقي سيكون في حيرة من أمره فيما يتعلق بالمحتوى الأوسع الذي أوضحنا، لدى مناقشة الموضوع الأول، أهميته القصوى. التناظر الحاسوبي هو مصطنع كلياً. أية تناظرات تشتق من مثل هذا العمل تعتمد كلياً على الافتراضات التي يغذي بها عالم الآثار جهاز الحاسوب. طرح النموذج الحاسوبي يعتمد على معلومات اثنوغرافية ثانوية وتجريبية.



تناظر حاسوبي

تحكم تجريبي

الأركيولوجيا التجريبية

الاثنوأركيولوجيا

المحتوى التقليدي
رسم يوضح بعض جوانب العلاقة بين التناظر الحاسوبي، الأركيولوجيا التجريبية، الاثنوأركيولوجيا
تحتوي الأركيولوجيا التجريبية على تنفيذ تجارب بهدف اختبار تصورات حول المعطيات الآثارية. رأينا أنها أقل واقعية، لكنها قابلة للتحكم فيها أكثر من الاثنوأركيولوجيا. لكن الاثنوأركيولوجيا تمتاز بميزة إضافية محتملة على منافستها. يمكن الادعاء بأنها أقل نزعة مركزة اثنية ethnocentric bias . أية تجربة تُجرى في إطار مجتمعنا لا بدَّ وأن تكون محكومة بافتراضات المجتمع ومعرفته. يمكن للتناول الاثنوأركيولوجيا أن يقدم لعلماء الآثار والمؤرخين رؤية بديلة جديدة كلياً للماضي البعيد.
جرت محاولات من قبل بعض علماء الآثار لدمج ميزات الاثنوأركيولوجيا بعلم الآثار التطبيقي عن طريق إجراء تجارب محدودة لكنها محكومة في محتويات تقليدية. واحدة من تلك التجارب تمثلها محاولة هوايت وثوماس التي طلب الباحثان من خلالها من السكان الأصليين لـ غينيا الجديدة القيام بتجربة صناعة أدوات حجرية stone tool manufacture. طلب علماء الاثنوأركيولوجيا من المتحدثين بلغة الدونا من أهالي مرتفعات البابوا في غينيا الجديدة صناعة أدوات حجرية تقليدية ومن ثم القيام بتحليل التنوع في شكل الأدوات التي صنعها الرجال في الأقاليم المختلفة. مثل هذه التجربة التي أجراها علماء الاثنوأركيولوجيا كانت لها ميزة أن التحليل، واكتشاف المتغيرات التي ظٌن أن لها التأثير الأكبر في تنوع الأدوات، يمكن التحكم فيه ويمكن توفير كم كبير من العينات. لكن هناك أيضاً نقاط ضعف. بخاصة، أن عالم الاثنوأركيولوجيا لم يعد مجرد ملاحظ لسلوك تقليدي. انه يعزل النشاطات من محتواها ويتدخل بنفسه بقوة في المسرح. انه يتدخل بحيث أن المحتوى context، الذي هو في العادة مركب هام، يتدمر. ننتهي إلى أن لا نعرف سوى القليل عن حقيقة وموثوقية الظروف التي تعرف فيها هوايت وتوماس على العلاقات، بحيث يصبح صعباً استخدام نتائجها في محتويات أخرى.
إن الأركيولوجيا التطبيقية ذات قيمة كبيرة في فهم الكيفية التي تكون قد صنعت بها الأشياء أو استخدمت، وفى التعرف على الخصائص الطبيعية للمواد مثل الظران flint عندما يرقق من قبل الإنسان، أو مثل الحجر عندما يستخدم لقطع الأشجار. لكن لدى الإجابة على أسئلة "لماذا" والتي تسعى لربط التقنيات والاقتصاديات بمحتويات اجتماعية وثقافية أكثر اتساعاً، يكون هذا النوع من المدخل محدود القيمة. 
تاريخ استخدام التناظرات الاثنوغرافية في علم الآثار

أعطيت الاثنوأركيولوجيا تعريفاً أشد تحديداً من مجرد معنى الاستخدام العام للتناظرات الاثنوغرافية. لكن من الضروري أن نرسم، ولو تخطيطياً، تاريخ استخدام علماء الآثار للاثنوغرافيا والأنثروبولوجيا وذلك تمكيناً لنا من تقييم الأهمية الحالية للاثنوأركيولوجيا وهدفها. الاستخدام في السابق يمكن تتبعه في البحث العلمي في أوربا وفى أمريكا ذلك أنه لم يجد اهتماماً من قبل الباحثين الآسيويين والأفارقة.
في أوربا، قادت حركة النهضة إلى تجديد الاهتمام بالعالم الكلاسيكي (العصرين اليوناني والروماني) وآدابه إلى وعي بالمجتمعات القديمة السابقة للمدنيات غير الأمية. بالطبع، فإن من بين الكتابات الاثنوغرافية التي قدمت خدمة لعلماء الآثار يمكن عد أعمال قيصر Caesar وتاسيتوس Tacitus الذين وصفا سكان فرنسا وانجلترا ومنطقة الراين السفلى الأصليين. لكنه في الوقت نفسه الذي قاد فيه الاهتمام بالكتابات الاثنوغرافية المبكرة إلى صورة للماضي بربرية، فإن صوراً مختلفة للغاية من العالم الحديث أخذت بدورها في جذب الانتباه.
الاستكشافات فيما وراء العالم المعروف قدمت أوربيي القرن السادس عشر إلى ثقافات جديدة تماماً. وصف جون هوايت، مستكشف فرجينيا فى عصر اليزابيث، ورسم قرى، واحتفالات، وصناعة رؤوس الأسهم، وعمليات الصيد، والنشاطات الزراعية لهنود البويوك من سكان أمريكا الأصليين. تم نشر بعض رسومه الملونة بالألوان المائية في عمل دى بري "تقرير موجز وحقيقي عن فرجينيا الأرض المكتشفة حديثاً" de Bry,1590. لكن دى بري وضع في الكتاب أيضاً صوراً للبريطانيين القدماء والرومان أو بعض الأبطال الأسطوريين. الحق دى بري تعليقاً بالصور جاء فيه "أرفق هذه الصور مع تلك التي يقدمها هوايت لتوضيح أن البريطانيين القدماء كانوا في زمان مضى في حالة من التوحش مثلهم مثل سكان فرجينيا" (نقلاً عن: Orme,1973:488). هنا، إذن، نجد أن تماثلاً اثنوغرافياً ethnographic parallel قد استخدم بغرض إضافة معلومة لما كان معروفاً عن الماضي. فى عام 1611 أشار جون سبيد إلى الفرجينيين لتدعيم نظريته بأن البريطانيين القدماء كانوا عراة. مرة أخرى استخدمت الاثنوغرافيا لتصيب أعضاء مجتمع القرن السابع عشر المتمدنين بصدمة بكشفها الستار عن ماضيهم البدائي!
انعكست حالة أخرى، استخدمت فيها الاثنوغرافيا لتغيير التفسيرات الرومانطيقية والأسطورية للماضي، في الجدل الذي دار بشأن الأدوات الحجرية stone implements. في منتصف القرن السابع عشر وصف الدروفاندوس Aldrovandusالأدوات الحجرية بوصفها "نتاج اختلاط لبعض زفير الرعد والبرق مع مادة معدنية، أساساً في الغيوم الداكنة، التي تجلطت بفعل الرطوبة المحيطة والتصقت في كتلة (كما الطحين بالماء) ومن ثم تقوت بالحرارة، مثل الطوب". وفى تلك الفترة نفسها تقريباً افترض توليوس Tolliusأن الأدوات الصوانية المرققة "تولدت في السماء عن طريق زفير وميض أشبه بالبرق مكور في سحاب بواسطة بخار مكثف" Daniel,1950:26. تفسيرات أخرى للأدوات الحجرية تقول بأنها كانت صواعق أو أسهم جن. مثل هذه النظريات وضع لها كل من الدكتور روبرت بلوت Robert Plot، من جامعة اكسفورد، ووالد زوجته دوجدالى Dugdale ومساعده لويد Lhwyd فى الأعوام ، 1686 و1656 و1713 تحديداً نهاية باللجوء إلى الاستعانة بنظائر اثنوغرافية. بحلول عام 1800 تمكن جون فريرى John Frere من وصف الفؤوس اليدوية الباليوليتية بأنها "أسلحة حرب".
في القرن الثامن عشر أنشئت العديد من التماثلات بين الاثنوغرافيات وماضي أوربا، كما هو واضح في كتاب لافيتو، الذي كان مبشراً فرنسياً في كندا، والصادر بالفرنسية في باريس في عام 1724 والذي أقام فيه تماثلات بين الهنود الحمر والكتاب المقدس والأدب الكلاسيكي. أو كما هو أكثر وضوحاً في عنوان كتاب كرافت Kraft الذي نشر عام 1960 في كوبنهاجن بالدنمرك "سرد موجز للمؤسسات، والعادات، والأفكار الأساسية للشعوب المتوحشة التي تدلل على أصل الإنسان والتطور عموماً"Klindt-Jensen,1976 مع أن كتاب كرافت قد ترجم إلى الألمانية والهولندية إلا أنه ظل بعيداً عن الملاحظة من جانب علماء الآثار. ينشئ كرافت تماثلات محددة بين الأدوات الحجرية التي تم العثور عليها في أوربا، والمراحل البدائية للإنسان، على أساس التناظر مع المجتمعات البدائية الموجودة.
كل تلك الحالات لاستخدام التماثلات الاثنوغرافية في القرون السادس عشر حتى الثامن عشر قد اهتمت بوضع تناظرات شكلية غير معقدة بغرض التوضيح واشتقاق تفسيرات بديلة. واستمر عدم الاكتراث بمخاطر التماثلات الاثنوغرافية في القرن التاسع عشر باستثناء بعض علماء الآثار من أمثال نيلسون Nilsson الدنمركي وبيت ريفرز Pitt Rivers في إنجلترا.
استخدم نيلسون في كتابه "السكان البدائيون لاسكاندنافيا" (1943) منهجاً مقارناً comparative method تمت على أساسه مقارنة الأدوات الصنعية ما قبل التاريخية prehistoric artefacts مع الموضوعات المتطابقة شكلياً ووظيفياً والتي يستخدمها الناس الحاليون. وادعى بأن علم الآثار باستخدامه المنهج المقارن لا بدَّ وأن يصبح قادراً "على جمع بقايا الأجناس الإنسانية التي بادت منذ أزمان طويلة مضت، وجمع أعمالهم التي خلفوها من ورائهم، وذلك لإنشاء تماثل بينها والأخرى المشابهة التي لازالت موجودة في الأرض، وبالتالي، نحت طريق يقود إلى معرفة الظروف التي وجدت، عن طريق مقارنتها بتلك التي لازالت موجودة". لكنه لاحظ أيضاً أن الحذر مطلوب لدى استخدام التناظرات الاثنوغرافية. "التشابهات مثل وجود أسهم حجرية متشابهة في سكانيا وتيرا دى فويجو لا تثبت دائماً الأصل الواحد نفسه" (أشار إليه Daniel,1950:49). الاستشهاد نفسه بين في التطوير الهام والمستقل الذي قدمه بيت ريفرز بالنسبة لاستخدام المقارنات الاثنوغرافية. قاد اشتراك الجنرال ريفرز في الجيش إلى اهتمامه بتطور البندقية وتحسينها. تبع تصنيفه الحذر لأنواع البنادق وأشكالها تجميعاً حذراً لسلسلة واسعة من الأسلحة، والقوارب، والآلات الموسيقية، والرموز الدينية وما إلى ذلك. لدى ترتيبه لمادته اهتم ريفرز بالأنواع أكثر من اهتمامه ببلدان أصلها. المواد الأثرية والاثنوغرافية يمكن مقارنتها، جنباً إلى جنب. مع ذلك، مثله مثل نلسن، كان ريفرز مهتماً بمناقشة التماثلات الشكلية. لدى تركيب تناظر من الضرورة بمكان إثبات الهوية الوظيفية إلى جانب الهوية الشكلية. هذا الاهتمام بالوظيفة يوسع محتوى التشابه الشكلي ويتجه أكثر نحو تناظر ارتباطي.
يفترض اورمى Orme 1973:487 بأن عمل ايفانز Evans, 1860، وعمل خرستي ولارتت Christy and Lartet, 1975 في التعرف على الأدوات وتحديدها استخدم مقارنات مع مواد ثقافية خاصة بجماعات تقليدية معاصرة، في حين اعتمدت تفسيرات أكثر عمومية قال بها لوبوك Lubbock,1865 وتيلور Taylor, 1948 بقوة على الاثنوغرافيا. كتب السير جون لوبوك في عام 1870 في كتابه "أصل المدنية والظروف البدائية للإنسان" أن "الأسلحة والأدوات المستخدمة الآن من قبل أجناس بشرية أدنى تلقي الكثير من الضوء على أهمية واستخدام تلك المكتشفة في المدافن القديمة، أو في الحصى المنجرفة... إن معرفة بالمتوحشين الحديثين وأنماط حياتهم ستساعدنا في رسم صورة أكثر دقة، وتبين بجلاء أوضح، سلوكيات أسلافنا وعاداتهم في الأزمان السالفة". ازداد تأثير الاثنوغرافيا على علم الآثار في النصف الثاني للقرن التاسع عشر كجزء من تطورين آخرين إضافيين. التطور الأول، في تفسير الماضي، تمثل في المرجعية للمخلفات الفولكلورية للأسلاف "البدائيين" Daniel,1950:185. التطور الثاني، أخذ المفهوم "الثقافي" يحل محل التشديد السابق لتقسيم المواد الأثرية إلى عصور. بدأت المدرسة الأوربية للأنثروبو- جغرافيين بدءاً من راتزل Ratzel وتلميذه فروبينوس Frobenius في وصف مناطق ثقافية في غرب أفريقيا وماليزيا. ترك عمل الاثنولوجيين الألمان تأثيراً على تطور مفهوم الثقافة في علم الآثار كما تم تبنيه لاحقاً من قبل جوردون تشايلد Gorden Childe . بالطبع، وصف دانيل Daniel,1950:246 تنظيم ما قبل التاريخ وفق ثقافات كما هو المنظور الأنثروبولوجي لما قبل التاريخ. 
رغم أن فضل الاثنوغرافيا والأنثروبولوجيا في النصف الثاني للقرن التاسع عشر كان كبيراً، فإن تحذيرات نلسن وبيت ريفرز مرت دون أن تجد من يلتفت إليها. طبقت التماثلات الشكلية مع اهتمام قليل بالمحتوى ولم تناقش المخاطر إلا فيما ندر. استمرت النزعة للمزيد من الارتباطات مع الأنثروبولوجيا في النصف الأول للقرن العشرين، على سبيل المثال، مجلة "حوليات الآثار والأنثروبولوجيا Annals of Archaeology and Anthropology" التي صدرت للمرة الأولى في عام 1908 تحت رعاية معهد الآثار بجامعة ليفربول، إلا أن التزايد في الكمية لم تصحبه دوماً زيادة في النوعية.
ضم العدد الأول لمجلة "Antiquity1927" مقالاً لـ رايموند فرث Raymond Firth عن التحصينات الترابية للماوري الذي كان الغرض منه مساعدة علماء آثار ما قبل التاريخ البريطانيين في تفسير الأعمال الترابية من عصر الحديد في بلادهم. في حين أن مكانة التحصينات الترابية في مجتمع الماوري قد تمت مناقشتها بصورة جيدة، فإن المقارنة مع التحصينات الترابية الإنجليزية نادرة وشكلية، اعتمدت على سمات مثل حجم الاستحكامات وشكلها. وأشار ثومسون في دراسة أجراها في عام 1939 للسكان الأصليين Aborigines "الونك مونكان" في شبه جزيرة كاب يورك باستراليا إلى أن علماء الآثار ستربكهم الثقافة المادية الباقية. عاش السكان الأصليون حياة تختلف باختلاف فصول السنة بحيث أن عالم الآثار قد ينخدع ويظن أن المجاميع الآثاريةarchaeological assemblages المختلفة تعود إلى سكان مختلفين. فوق ذلك، لاحظ ثومسون أن القليل يبقى لعلماء الآثار ليكتشفوه. هذا هو المثال الأول لنوع محبط وسلبي من التناظر الذي أصبح لاحقاً "حكايات تحذيرية". معظم تلك المحاذير تتسم بقلة اهتمامها بالمحتوى الذي يقود إلى بقايا مادية محددة : في المثال الأسترالي فإن المحتوى متخصص إلى درجة عالية وستصبح التعميمات صعبة.
تماثلات مع مجتمعات قريبة من المتناول يبدو أنها تتجنب تلك الإشكالات. في تقريره عن أعمال التنقيب فى سكارا براى، وهو موقع إقامة من العصر الحجري الحديث في جزر اوركني، استخدم تشايلد Childe, 1931 تناظرات مع سكان معاصرين للجزر الشمالية في تفسيره لوظائف المراقد والظواهر الأخرى داخل الأكواخ. واستخدم جراهام كلارك أيضاً Clark, 1952 ثروة من المعلومات من المجتمعات المعاصرة والحديثة الاسكندنافية بهدف توفير تناظرات شكلية للأدوات ما قبل التاريخية. إلا أنه وفى الكتاب نفسه عقدت العديد من المقارنات على مدى مسافات بعيدة مع قبائل الاسكيمو في كندا وشمال أمريكا، في وصفه لموقع ستار كار. في عام 1965 أدت زيارة قام بها جراهام كلارك إلى استراليا إلى أن يكتب مقالاً يقارن فيه، مع اهتمام إلى حد ما بالمحتوى و وثاقة الصلة، تجارة الفأس هناك مع توزيع الفؤوس النيوليتية في بريطانيا. اقترح بناء على تشابهات الفؤوس، وتوزيعها الواسع، والمستوى غير المعقد للمجتمعات، بأن الفؤوس النيوليتية تمت المتاجرة بها بمبادلتها بسلع احتفالية، تماماً كما كان الحال في غينيا الجديدة وأستراليا.
مزيد من الاهتمام بوثاقة الصلة والمحتوى استمر في تناظرات حذرة أكثر أقيمت في الأعمال الأكثر حداثة، على سبيل المثال، ديفيد David,1971 ورولاندس Rowlands,1971; id.1976. لكن التشديد على المقارنات الشكلية بقي قائماً. استخدم كلارك Clark, 1986 بينة من هنود كلفورنيا ليقترح بأن الربط يمكن أن يتم بين أشكال التوزيع الإقليمي للأدوات الصنعية والمجموعات اللغوية، في حين عقد هودر Hodder,1978 مقارنات شكلية أخرى للتوزيعات الثقافية. وتيرة مثل هذه الدراسات الشكلية آخذة في التناقص مع تزايد التحذيرات (انظر على سبيل المثال Ucko,1969) ومع نشر التقييمات Orme,1973; id.1974; id.1981. وصلت قوة الربط بين علم الآثار والأنثروبولوجيا والاثنوغرافيا قمة جديدة في أوربا الغربية بإنشاء كراسي متخصصة في أقسام علم الآثار بالجامعات، وبمنح تلك الجامعات لشهادات علمية مزدوجة في الآثار والأنثروبولوجيا، وفى تصميم العديد من المقررات ونشر الأبحاث في هذا المجال والتي أفدنا منها في إعداد هذا الكتاب. مع ذلك فإن هذا التقارب بين الأركيولوجيا والأنثروبولوجيا في أوربا يعد محدوداً إذا ما قارناه بالوضع في أمريكا الشمالية. لا جدال في أن الاهتمام المتزايد بالاثنوغرافيا من قبل علماء الآثار في بريطانيا وفى دول أوربا الغربية يمثل نتاجاً للتأثيرات القادمة من الجانب الآخر للأطلنطي. (أما في العالم العربي فإن فكرة الربط بين العلمين لم تولد بعد بفعل أسباب يمكن إرجاعها في الأساس لابتعاد المناهج التعليمية في الجامعات العربية عن مفهوم تكامل العلوم الإنسانية من جانب، ولتصميم مناهج أقسام الآثار على مفهوم علم الآثار الكلاسيكي الذي يحصر تدريب الطلاب في مجال المدنيات العارفة للكتابة بالتركيز على التعامل مع المعطيات الابيجرافية مع اهتمام محدود بمعطيات الثقافة المادية- أسامة النور). 
في أمريكا فإن وجود مجتمعات السكان الأصليين من الهنود الحمر في المناطق التي أجريت فيها أعمال التنقيب الآثاري ساعد في جعل علماء الآثار يدركون إمكانية استخدام الحاضر لتفسير الماضي. تمكن علماء الآثار الأمريكيون بطريقة مباشرة من استخدام التاريخ العرقي ethnohistory والسرود الاثنوغرافية. مثال مبكر لاستخدام الاثنوغرافيا في أمريكا توفره المجادلة التي دارت بشأن "بناة التلال". في نهاية القرن الثامن عشر تم الكشف في أوهيو وفى مناطق حدودية أخرى عن أعداد كبيرة من التلال أو الأطلال. وقد تم رفض كلي لإمكانية أن تكون تلك الصروح قد شيدت من قبل الهنود الحمر "المتوحشين"، وطرحت تصورات بشأن "جنس بائد" حل الهنود الحمر محله. طبيعة الجنس البائد من بناة التلال وأصله أصبحت موضوعاً للتأملات الخيالية إلى أن تم أخيراً، في أواخر القرن التاسع عشر، طرحها جانباً بوصفها مجرد أسطورة، وذلك بفضل عمل سيروس ثوماس Cyrus Thomas . تم اختيار ثوماس في ثمانينات وتسعينات القرن التاسع عشر للقيام ببحث في تلك التلال. من خلال أعمال التنقيب التي أجراها ثوماس ومقارناته للمواد المنقبة مع الثقافة المادية للهنود الحمر المعاصرين في المناطق نفسها، تمكن باول وثوماس من الوصول إلى رأي يقول بأن بناة التلال كانوا أناساً من "المتوحشين" الحاليين نفسهم.
هذا التناول التاريخي direct historical approach المباشر الذي استخدمه ثوماس لإلقاء الضوء على المعلومة الآثارية، كان جزءاً من التشديد العام على الاستمرارية. بحلول نهاية القرن حاولت بعض الدراسات Fewkes,1893; Hodge,1897; Kroeber,1916 استخدام البينة الآثارية لاختبار التحدارات الشفهية للهنود الحمر أو للكشف عن مواقع ترتبط بأساطير عشيرة بعينها. شكلت التناظرات القائمة على أساس الاستمرارية في مناطق محلية جزءاً هاماً من التحديد العرقي لمركبات ثقافية طيلة فترة مبكرة من القرن العشرين في أمريكا الشمالية. تحديداً طور كل من سترونج Strong,1935 وستيوارد Steward,1942 التناول التاريخي المباشر كإجراء متميز في مجال التفسير الآثاري. 
ومع أن التشديد نفسه على استخدام الاستمرارية لدعم التناظرات لازال مشهود في أعمال أمريكية مؤخراً (على سبيل المثال في مثال "الحفر الملطخة" الذي تناولناه في الفصل السابق)، إلا أن اهتماماً متزايداً خلال الأربعين سنة الماضية وجه للتعميمات بوصفها جزءاً من التوسع المدرك لما صار يعرف بـ "علم الآثار الأنثروبولوجي anthropological archaeology". وصف تيلور Taylor,1948:6 عالم الآثار بأنه مثل "جيكل وهايد" يدعي بأنه "يمارس" التاريخ لكنه "أخصائي" أنثروبولوجي. ارتبط استخدام التناظرات المباشر والمستمر بوضوح بتشديد تاريخي، وباهتمام جديد بالوصول إلى إفادات عامة حول الإنسان، والمجتمع، والعلاقات والأنظمة الايكولوجية التي استمرت إلى الوقت الحالي، متجنبة التشديدات على التأطير التاريخي ساعية إلى أن تحتوي علم الإنسان التعميمي. ارتباطاً بهذا التطور لوحظ تقليل الاهتمام بالعلاقات السببية في إطار محتويات بعينها عند استخدام تناظرات اثنوغرافية. كان الهدف هو إنشاء تناظرات مقارنة عامة واستخدامها. تفسيرات الماضي يتم الوصول إليها عن طريق تعميمات مقارنة وشبه شمولية واسعة حول السلوك الثقافي الإنساني، أكثر من أن تكون محصورة فى محتوى تاريخي محددWilley and Sabloff,1974:207. لكن وجهة النظر هذه لم تمر دون أن تواجه نقداً في أمريكا. وفقاً لـ أندرسون Anderson,1969، "التحليل المنطقي للشكل يعتمد إلى حد كبير على إدراك الموضوع، والذي تحتمه خلفية ثقافية، وكذلك مبادئ عامة شاملة". تلك الدراسات الحديثة التي تختبر المحتوى والتي تستخدم تناظرات ارتباطية اهتمت أكثر بالمحتوى الوظيفي و الايكولوجي من الاهتمام بعالم الأفكار.
في هذه الفترة الأكثر حداثة، في الوقت الذي أصبح فيه "علم الآثار الأنثروبولوجي" صيحة "علماء الآثار الجدد" Meggers,1968; Longacre,1970 أصبحت الاثنوأركيولوجيا محددة بوصفها مجالاً متميزاً للبحث. رأينا بأن الكلمة استخدمت منذ عام 1900 من قبل فيوكس، لكن التطور حدث في الخمسينات والستينات. تم اقتراح تعريفات مختلفة للاثنوأركيولوجيا ومصطلحات مناظرة مثل علم الآثار "العملي" وعلم الآثار "الحي" Ascher,1962وظهرت دراسات محددة Thompson,1958; Oswalt and VanStone,1967. 
كانت ندوة "الإنسان الصياد" Lee and De Vore,1968 مهمة لكونها جلبت كماً كبيراً من المعلومات والإفادات العامة حول الصيادين- الجامعين إلى دائرة اهتمام علماء الآثار، في حين أنه وفى السنة نفسها شملت مجموعة المقالات التي أشرف عليها بينفورد Binford دراسات اثنوأركيولوجية هامة (على سبيل المثال دراسة لونج آكرى وآيرز Longacre and Ayres). منذ ذلك تزايدت أعداد الدراسات والتعريفات والكتب Donnan and Clewlow,1974; Stiles,1977;Gould,1978; Binfordm1978; Kramer,1979. لكنه من المهم أن ندرك أن هذا الاندفاع إلى العمل الاثنوأركيولوجي غير موحد من حيث التناول. الاختلافات في وجهات النظر حول التعريفات قدمنا عرضاً لها في بداية هذه المحاضرة. لازالت هناك اختلافات معتبرة من حيث التشديد على المحتوى و وثاقة الصلة. على سبيل المثال، تتناقض دراسة ويلمسن الجادةWilmsen,1979 لبعض المحتوى الثقافي والتاريخي للسان (البوشمن؟) وتنميط البقايا المادية مع دعوة شيفر Schiffer,1978 لتوليد قوانين كل ثقافية. في حين تهتم بعض الدراسات فقط بالمحتوى المتكيف وظيفياً الذي تنتج فيه البقايا المادية (على سبيل المثال Binford,1978)، فإن آخرون يهتمون باختبار الأساس المعرفي للسلوك (على سبيل المثال Hardin,1979).
هناك اختلاف أيضاً فيما يتعلق بالدور الذي تقوم به التناظرات الاثنوغرافية في التفسير الآثاري. الغريب، أن الاندفاع الاثنوأركيولوجي الحديث جاء في وقت كان فيه الرأي الغالب وسط علماء الآثار الأمريكيين يدعو إلى تحجيم دور التناظر. شدد العديد من علماء الآثار على أن التفسير يجب أن ينطلق من اختبار فرضيات استدلالية. التناظر المشتق من الاثنوأركيولوجيا ينظر إليه بوصفه يقوم بدور صغير مبدئي في طرح الفرضية. وضحت في الفصل الأول لماذا تعد وجهة النظر هذه مضللة. في الحقيقة، يقوم علماء الآثار بـ ويمكنهم الاستمرار في الاستخدام الحذر والمتتابع للتناظرات الارتباطية وليس من الضروري وضع هذا الإجراء "كاستدلال افتراضي".
تزايد البحث الاثنوأركيولوجي هو نتاج للتشديد الأنثروبولوجي في علم الآثار، وللاهتمام المتصاعد فى تركيب تعميمات كل ثقافية عن السلوك الإنساني. الاثنوأركيولوجيا ينظر إليها أيضاً بوصفها توفر إمكانية اختبار فرضيات معينة استدلالياً في مواجهة المعطيات الآثارية. إن للاثنوأركيولوجيا حالياً وظائف هامة يمكن أن نذكر منها:
أولا، أصبح واضحاً، مع توجه علماء الآثار أكثر فأكثر إلى الأنثروبولوجيين الاجتماعيين طلباً للنصح والإلهام، أن الدراسات الاثنوغرافية الموجودة غير ملائمة. نادراً ما يجمع الاثنوغرافيون نوع المعطيات عن البقايا المادية الأكثر وثاقة صلة بالنسبة لعلماء الآثار. فالاثنوغرافيون ركزوا على جوانب تتعلق بالتنوع الاجتماعي واللغوي، وبالوصف العام للمادة الثقافية. القليل من الدراسات الاثنوغرافية قدمت معلومات تفصيلية عن أماكن مواقع الإقامة، وتنوع أحجام الأدوات الصنعية وأشكالها، أو عمليات رمي الفضلات. بخاصة تستحيل الإجابة، باللجوء لاستخدام الدراسات الاثنوغرافية الموجودة، عن الأسئلة المتعلقة بعمليات الترسيب وما بعد الترسيب والتي ينتج عنها انتشار الأدوات الصنعية وتوزيعها وسمات المواقع الأثرية. الاهتمام المتصاعد بهذا النوع من الأسئلة في العشرين سنة الماضية Schiffer,1976 شكل عنصراً إضافيا شجع النهوض الحالي لأهمية الاثنوأركيولوجيا. أصبح مهماً لعالم الآثار أن يجمع معلوماته الاثنوغرافية بنفسه، وفى الحقيقة فإن معظم البحث الاثنوأركيولوجي ينفذ اليوم من قبل أناس نالوا تدريباً كأثاريين، وليس عن طريق اثنوغرافيين أو أنثروبولوجيين اجتماعيين.

ثانياً، وظيفة ثانية مهمة توفرها الاثنوأركيولوجيا هي إنقاذ معلومات مناسبة عن أشكال المجتمع التي يتسارع زوالها. التدمير الاستعماري للعديد من الشعوب من تسمانيا حتى أمريكا الشمالية كان فعالاً إلى درجة مخيفة. تقنية تشذيب الأدوات الصوانية التي استخدمها آخر الباقين من سكان كاليفورنيا الأصليين من الهنود الحمر سجلها لنا نلسون Nelson,1916، لكن مثل هذه المعلومة فقدت عادة أو سجلت بصورة غير دقيقة. ما نمتلكه الآن هو بقايا المذابح الوحشية التي نفذها الأوربيون المهاجرون الجدد إلى القارة الأمريكية. المجتمعات التقليدية للسكان الأصليين الباقية الآن يتم دمجها في الاقتصاد العالمي الواسع. أشار وبسوت Wobst,1978 إلى أن معظم علماء الاثنوأركيولوجيا يقومون الآن بملاحظة جوانب التكيف المحلي لجماعات الصيد-الجمع. الارتباطات الإقليمية والبين-إقليمية اختيرت لكونها "حديثة"، "تالية الارتباط" و "مضللة". إذا اعتقدنا بضرورة اختبار المجتمعات التقليدية، فإن على الاثنوأركيولوجيا ألا تضيع الوقت في وضعها في محتواها العالمي الحديث.



رغبة علماء الآثار الأوربيين في دراسة المجتمعات التقليدية الأقل تقدماً صناعياً مفهومة طالما أنهم يسعون إلى اختبار تشذيب الصوان والتقنيات الأخرى التي ما عادت موجودة في مجتمعاتهم الغربية. لكن مع ذلك هناك احتمال، أنه بعد سحق الاستراليين الأصليين والأمريكيين الأصليين والأفارقة عسكرياً، واقتصادياً، واجتماعياً، أن يستمر الأوربيون في سحق أولئك عن طريق "استعمار ثقافي". قلنا بأن الاثنوأركيولوجيا هامة من حيث كونها تساعد في كسر طوق نزعة المركزة الغربية Western Ethnocentrism المفروض على التفسير الآثاري، لكن علينا أن نعي جيداً وجود مجازفة خطيرة إذا ما شرعنا في اختبار أقسام في مجتمعاتنا الأفريقية نعدها "بدائية"، فإننا سنقع في هذه الحالة في ذات مستنقع نزعة المركزية الاثنية. نفترض بأن مجتمعنا "المتطور" أقل وثاقة صلة للكشف عن تناظرات في العصور الحجرية من مجتمعات أفريقية "بدائية". لكن مجتمعات أفريقية "بدائية" قد لا تنظر للمسألة من هذا المنظور. إنها ليست بمجتمعات منحدرة، ولا هي بمجتمعات مرتدة إلى الضرب السلفي الذي نشأت عنه، ولا هي بمجتمعات راكدة. هنالك مخاطرة فى أن نلبس مجتمعات العصر الحجري الحديث الشمال أفريقية على سبيل المثال لباس قبيلة جنوب أفريقية خوانية (هوتنتوتية؟) أو شرق أفريقية كينية أو نيلية سودانوية.
ثالثاً، الوظيفة الثالثة للاثنوأركيولوجيا، وهى الأكثر أهمية في اعتقادنا، تتمثل في تطوير تناظرات اثنوغرافية تختص بالمبادئ التي تربط التنميط المادي بالمحتويات التكيفية والثقافية. لكن من هذا المنطلق يكون جلياً أن تعديلاً في منهجية البحث الاثنوأركيولوجي يصبح أمراً ضرورياً. حتى اللحظة تكاد تكون معظم الدراسات الاثنوأركيولوجية التي اطلعنا عليها قد وضعت من قبل علماء آثار متخصصين، وهو ما يبدو لنا أنه التوجه الأصح. الاثنوأركيولوجيا تعني بكل بساطة أن يقوم عالم الآثار ببعض العمل الاثنوأركيولوجي، عادة كعمل فرعي أو كمجال اهتمام ثانوي. يعالج عالم الآثار المعطيات الاثنوغرافية كما لو أنها معطيات آثارية ويستخدم مناهج البحث الآثاري (جمع العينات sampling، التسجيل recording، الخ). إلى حد علمنا، ليس هنالك وصف تفصيلي في الأدب الاثنوأركيولوجي لطرق العمل الميداني، وتقنيات المقابلة، وإشكالات تحديد العينة من السكان الأحياء. ينتج هذا النقص المريع مما أسماه جوولد Gould,1978 بـ "التشديد المادي" للاثنوأركيولوجيا. هناك افتراض بأن الاثنوأركيولوجي يهتم بمنتجات السلوك الفعلية، وبتحديد البقايا المادية، وبالوصف الموضوعي. لكنه بمجرد قبول فكرة كون محتوى النشاطات المادية أمر في غاية الأهمية، فإنه لا مناص عندها من عد مناهج البحث الميداني الأنثروبولوجي أمراً لازماً. إذا كان لا بدَّ لنا من الكشف عن الإطار الاجتماعي والثقافي الذي يقدم معلومة عن صناعة آنية فخارية أو تشذيب سكين صوانية، فإنه يتوجب علينا فهم محدوديات وصعوبات ومشاكل المقابلات، والملاحظات، وفهم أعضاء مجتمعات أخرى ومنتجاتهم المادية. سنجد أنه ليس فقط الناس هم الذين يكذبون بل حتى الأواني الفخارية يمكنها هي الأخرى أن تكذب.