Monday, October 1, 2012

موجز عن حفريات موقع قلعة شنان

الموقع الجغرافي لقلعة شنان:-
يقع موقع قلعة شنان بحوالي 176 كلم شمال الخرطوم وجنوب غرب مدينة شندي بحوالي 1,5 كلم ويبعد ما بين 500 – 800 متر شرق النيل. (خارطة رقم 1). وهو يقع في منطقة بالقرب من نشاطات البعثة الفرنسية التي عملت في منطقة التراجمة بحوالي 8 كلم شمال شندي والتي أسفرت حفرياتها عن جبانة للعصر الحجري الحديث تعتبر من أميز الدلائل الأثرية على طبيعة الدفن والمحتوى الجنائزي لإنسان العصر الحجري الحديث في اقليم النيل الأوسط، إذ حوت تنوعاً في المدافن من ناحية وضعية دفن الراشدين على الشكل القرفصائي ودفن الأطفال داخل جرار فخارية. (Geus. 1984:32) وامتدت أعمال البعثة الفرنسية  لتكشف عن موقع الغابة وسدير والشقالوة وقندتو في ما يمكن أن نسميه منطقة شندي. (خريطة رقم 1) إضافة إلي ذلك فقد كشفت أعمال جامعة ميثودست الجنوبية وجامعة الخرطوم عن مستوطنات للعصر الحجري الحديث في البطانة الغربية حول موقع شق الدود الذي يقع إلي الجنوب الشرقي من موقع قلعة شنان بحوالي (37) كلم. (Marks and Mohammed-Ali.1985:45) وفي غضون تلك النشاطات أسفرت أعمال الباحث خضر عبد الكريم في الكشف عن مستوطنة لهذا العصر غرب النيل في موقع قوز برة. (Ahmed.1984:127) علاوة على ذلك أثمرت حفريات جامعة الخرطوم في العثور على مستوطنة للعصر الحجري الحديث في موقع الصور بالقرب من مروي القديمة. (Sadig.2005) حيث ماثلت مقتنياتها الأثرية موقع الكدادة من خلال دفن الأطفال داخل الجرار بجانب بقايا الاستيطان البشري في موقع واحد، وقد اذدادت المسوحات الأثرية حول منطقة شندي في الأونة الأخيرة حيث تم الكشف عن مستوطنات لهذا العصر بعيداً عن النيل بحوالي 50 كلم إلي الشرق من شندي حول منطقة الباطن في موقع بئر بكوري، جق اللبيت وقليع زمزم. (نصر.126:2011).

كل هذا يقود إلي أن موقع قلعة شنان يتوسط مراكز للفترة التي تسمى بالعصر الحجري الحديث والتي استمرت منذ الألفية السادسة قبل الميلاد وحتى الألفية الثالثة قبل الميلاد، متنوعة هذه المستوطنات من ناحية الحجم والوضعية الجغرافية، مما يشير إلي تباين ثقافاتها الأثرية، ذلك الأمر الذي عكسته نوعية وكمية المحتوى الأثري في كل موقع. ومن خلال التقصي حول نتائج دراسات تلك المواقع يتضح أن موقع قلعة شنان ينفرد عنها بمميزات خاصة تندرج في الآتي:
1-  تدل الوضعية الجغرافية لموقع قلعة شنان على وفرة الموارد الطبيعة خلال حقبة الهولوسين والتي مهدت سبل العيش لإنسان العصر الحجري الحديث، مما انعكس على حجم المستوطنة، إذ يشغل الموقع مساحة تقدر بحوالي (600) متر من الجنوب إلي الشمال وحوالي(400) متر من الغرب إلي الشرق، وهذا ما لم نلاحظه في مواقع العصر الحجري الحديث على النيل في منطقة شندي، حيث يظهر موقع قلعة شنان عبارة عن مرتفع يرتكز على ضفة النيل اليمنى تفصل بينه وبين النيل سهول زراعيه منبسطة ويتكون من ثلاث تلال (كوم أ ، كوم ب ، كوم ج) وتقود وضعيتها الجغرافية إلي أن هذا الموقع من نوع الاستيطان الدائم الذي يخلف بقايا أثرية على مساحة كبيرة أو أنها مستوطنات قامت بالقرب من بعضها البعض في مساحة واحدة، غير أن التجانس في اللقي الأثرية بين وحدات الموقع يشير إلي ظهورها في أزمان متعاصرة، وقد سكنتها شعوب ذات ثقافات متشابهة. (شكل رقم 1).
2-  أسفرت الحفريات الأثرية في موقع قلعة شنان عن عمق طبقي فريد ما بين (100 – 130) سم لا يوجد له مثيل في منطقة شندي عدا موقع شق الدود الذي بلغ حوالي 3 أمتار في منطقة البطانة الغربية. (Mohammed-Ali.1991:75) وهذا ما يشير إلي طول فترة الاستيطان في الموقع من خلال تباين المحتوى الأثري لتلك الطبقات وتراصفها طويل المدى، حيث يشير المنظر الطبيعي لبعض وحدات الموقع وكأنها أكوام من خلال ارتفاع التلال الذي بلغ حوالي 378 متر عن مستوى سطح البحر وما بين (3 – 5) أمتار عن محيطها، وهذا دليل واضح على كثافة اللقي الأثرية التي شكلت تلال من البقايا المادية وتوحي بعمق طبقي طويل للتراكمات الأثرية.
3-  يعكس المنظر الطبيعي في منطقة شندي مدى ارتفاع موقع قلعة شنان عن محيطه، إذ يظهر أعلى المواقع ارتفاعاً ويقع على حافة مصب وادي أم جقيمة الذي ينصف شندي القديمة من الشرق إلي الغرب ليصب في النيل، وهذا دليل على خصوصية الموقع الجغرافية بالقرب من النيل، على حافة وادي مع ارتفاعه وتوسطه للسهول المنبسطة، مما يشير إلي عاملي الجغرافية والطبيعة ودورهما في اختيار إنسان العصر الحجري الحديث لقعلة شنان، وفي غضون اعتماد علم الآثار على مسألة تداخل العلوم والاستفادة من علمي الجغرافيا والبيئة في تفسير الدلائل الأثرية، يصبح لدينا معطيات مادية بالدراسة المتعمقة ستتمخض عنها نتائج علمية لصياغة الخلفية الثقافية – الاقتصادية والاجتماعية لمستوطنة العصر الحجري الحديث في قلعة شنان. (شكل رقم 1).
تاريخ العمل الآثاري في الموقع:-
على الرغم من خصوصية الموقع الجغرافي لقعلة شنان، في منطقة نشطت فيها الأعمال الآثارية، لم تقم فيع أعمال مسوحات أو حفريات ولم يأتي ذكره بصورة رسمية، فقط كانت اشارات لوجود انتشار لبقايا آثار العصر الحجري الحديث في منطقة شندي، والتي ذكرتها أعمال آركل 1940م وفرانسيس جيوس وادوارد وفيركوتيه وميشيل بود (Geus.1984 – Edwards.1989 Boud.2008 and Vercoutter 1962) .
وقد اكتشف الموقع رسمياً من خلال مسوحات الهيئة العامة للآثار والمتاحف مع جامعة شندي في العام 1999م وتم اختباره في العام 2000م. (Alsadig.2004:13). وجرت الحفريات بصورة مستمرة من الأعوام (2000 – 2009م) على يد الأستاذ الراحل صلاح عمر الصادق، بغرض تدريب طلاب السنة الرابعة من قسم الآثار والمتاحف على عمليات التنقيب الآثاري، والتي أسفرت عن مخلفات أثرية لفترة العصر الحجري الحديث في موقع قلعة شنان. وقد درجت الأعمال الآثارية على تقسيم الموقع إلي وحدات أثرية وفق الطبوغرافية وذلك لكبر حجم الموقع وتنوع ملتقاطته السطحية، فسمي الجزء الشمالي من الموقع (الكوم أ) ويشغل مساحة تمتد من سوق القش (شندي القديمة) حتى خور أم جقيمة ويضم موقع بيت شنان وكوم مرتفع على ضفة الخور اليسرى، وسميت المنطقة الجنوبية بالكوم (ب) وهو ذلك المرتفع الذي يرتكز على حافة السهول الزراعية مع مباني البحوث الزراعية ويفصله عن الكوم (أ) فرع من خور أم جقيمة، أما بقية الموقع سمي الكوم (ج) وهي المساحة التي تمتد شرق مباني البحوث الزراعية وسط مربع (8) من الشمال إلي الجنوب. (أنظر الصورة الجوية شكل رقم 1).
جرت الحفريات الأولى على اختبار الكوم (ب) وقد كشفت عن طبقات استيطانية لفترة العصر الحجري الحديث مع العثور على دفنات لهذه الفترة، تميزت وضعية الدفن بالشكل القرفصائي مع الأثاث الجنائزي الذي تكون من الأدوات الحجرية وشقف الفخار، حيث وجد المتوفى وعلى ذراعه سوار من صخر القاشاني وقد ماثلت وضعية الدفن تلك الدفنات التي وجدت في موقع الكدرو. (Krzyzaniak.1992:268).
ومن ثم تركزت الحفريات من موسم 2001م حتى موسم 2009م في الكوم (ج) وقد حفرت حوالي (18) مربع في الجزء الشمالي الغربي من الكوم، وتمثلت البقايا المادية في مستويات متباينة من تراكم مخلفات الاستيطان البشري المماثل لمخلفات العصر الحجري الحديث، حيث أبدت بعض اللقى الأثرية تشابهاً مع تلك الثقافة المادية للعصر الحجري الحديث في اقليم الخرطوم. (Mohammed-Ali.1982:83) وأكثر تطابقاً بمخلفات الفترة المبكرة من العصر الحجري الحديث وفق تقسيمات كريزي زانياك للعصر الحجري الحديث من خلال حفرياته في موقع الكدرو. (Krzyzaniak.1992:162).
واستمرت الحفريات في المواسم (2010 – 2011 A – 2011 B – 2012م) في نفس الكوم (ج) على يد الكاتب مع الأستاذ عبد المنعم أحمد عبد المنعم رئيس القسم، على نهج اختبار الموقع بحفر مربعات في أواسط وأطراف الكوم (ج) وقد بلغت مربعات الحفر حوالي (12) مربع مع أن (موسم 2012م) تركز على اختبار الكوم (أ) بمربع واحد كشف عن دفنة لربما تعود لبدايات العصر الإسلامي وتم تخطيط الكوم (ب) في هذا الموسم مع حفر مربع واحد كشف عن مدفن يعود للعصر الحجري الحديث من خلال وضعية دفن المتوفي والأثاث الجنائزي الذي اشتمل على خرز مصنوع من الصدف أبيض اللون، ومن ثم درج منهجية موسم 2012م على حفر ثلاث مربعات أسفرت عن عن وجود تباين في مدافن العصر الحجري الحديث المتأخر في الموقع ما بين مدافن الراشدين بدون أثاث جنائزي وراشدين تكون أثاثهم الجنائزي من آنية واحدة، وفي الجانب الآخر عدد أربع دفنات لأطفال اختلفت في الوضعية وكمية الأثاث الجنائزي مع التجانس في نوعية الأثاث الجنائزي.
خرجت تلك الحفريات بسلسلة من البقايا الأثرية لفترة العصر الحجري الحديث، ظهرت في شكل ست مستويات استيطانية متراكمة وفق قانون التراكم الطبقي، إذ وجدت الطبقات الوسطى أكثر تشابهاً بمخلفات الفترة المتأخرة من العصر الحجري الحديث تلك الفترة التي ظهرت أدلتها في موقعي الكدادة والصور. (Geus.1984:32).
جدير بالذكر أن تلك الطبقات تعلوها طبقة استيطانية (نعتبرها هنا المستويات العليا) تظهر عليها بقايا جرار وأساسات مباني من الطوب الأخضر أقرب إلي أن تكون تابعة لمستوطنات ما قبل العهد التركي المصري في السودان، وفي المقابل وجدت الطبقات السفلى ذات بقايا استيطانية أعمق زمنياً، إذ أظهرت تشابهاً بالفترة المبكرة للعصر االحجري الحديث، تلك الفترة التي ظهرت أدلتها في موقع الغابة وموقع شق الدود. (Marks.1991:43)، علاوة على ذلك احتوت هذه الطبقات السفلى على بعض الدفنات ذات الوضعية الشبيهة بدفنات الكوم (ب) مع الاختلاف في العمق والأثاث الجنائزي، إذ وجدت الأولى في موسم 2010م في عمق 130 سم والثانية وجدت في موسم 2011 B في عمق 90 سم وهناك اختلاف في شقف الفخار التي وجد في الدفنتين مصاحبة للمتوفى، إضافة إي ذلك أظهرت أعمال الحفر عن كم هائل من المخلفات الأثرية طيلة مواسم الحفر تمثلت في شقف الفخار وبعض الأواني الفخارية المكتملة مع كمية من الصناعات الحجرية المختلفة من ناحية الحجم ودرجات الكشط والتلميع، والعديد من أدوات الزينة مثل الخرز المتعدد الألوان والأشكال وكميات من صدف المحار النيلي والقواقع وأماكن النار من الرماد والفحم، واختلط هذا التراكم الثقافي بكميات من عظام الحيوانات الكبيرة والصغيرة وبعضها متفحم.
اندرج العمل الآثاري لجامعة شندي في الموقع على صورة مواسم متتالية بغرض تدريب الطلاب مع اختبار قضايا علمية لفترة ما قبل التاريخ في الموقع، وقد تركزت الحفريات على طرح فرضيات وتساؤلات قبل البدء في الحفر ومن ثم اختيار المساحة التي لربما حفرها يحقق تلك الفرضيات المطروحة سلفاً، وعليه عكفت منهجية الدراسة على تدريب الطلاب على كل مراحل التنقيب الآثاري باستخدام كل معدات الحفر الآثاري وتسجيل الحفرية الأثرية مع تصنيف وتحليل البقايا المادية وصياغتها في شكل تقارير علمية وجمع المادة الأثرية بعد التحليل في مخزن القسم لحين دراستها بصورة أوسع خصوصاً العظام والتي مازالت تحت الدراسة بغرض التعرف على نوعية الحيوانات التي كانت في منطقة شندي خلال العصر الحجري الحديث والتي لربما كانت المرتكز الاقتصادي لإنسان المنطقة في ذلك الزمن.
وعليه إن المحتوى الثقافي في موقع قلعة شنان يكشف عن مستوطنة للعصر الحجري الحديث في منطقة شندي تميزت بكبر الحجم والعمق الطبقي، واعتمد اقتصادها على المرتكزات المحلية من الصيد البري والنهري وقد دلت بقايا عظام الحيوانات المحروقة الكبيرة منها والصغيرة والفخار إلي مؤشرات لطبيعة المرتكز الاقتصادي الذي لربما كان فيه نوع من ممارسة الرعي والزراعة، على الرغم من عدم وجود الأدلة المباشرة على انتاج الطعام، كما أثمرت الحفريات في الكشف عن ثقافة مادية تشير إلي تغيرات في المناخ أجبرت إنسان العصر الحجري الحديث على الاعتماد على البيئة المحلية وتطويعها لخدمة اقتصاده وامتزجت ثقافته بمظهر الأرض ومكوناته ويظهر ذلك جلياً في تقنيته الثقافية التي تكونت من الفخار والصناعات الحجرية، وقد عكست البنية الأثرية تنوعاً ثقافياً يشير إلي تطور متدرج في ثقافة إنسان المنطقة مع الاستفادة من الهجرة وانتشار الأفكار في تكوين نسيجه الثقافي ومجتمعه. (Renfrew and Bahn.1998:43).
خلاصة:
نستخلص من الوضعية الجغرافية والمخزون الأثري لموقع قلعة شنان، مدى أهمية منطقة شندي لانتشار ثقافة العصر الحجري الحديث واستمراريتها الثقافية، حيث دلت الآثار المادية على جاذبية منطقة شندي من المناخ والبيئة والطبوغرافية لمستوطنات حقبة الهولوسين الأوسط والمتأخر، ويعطي الموقع مؤشرات آثارية على تمدد المستوطنات السكانية وتطور مجتمعاتها وارتباطها ببعض المستوطنات التي ظهرت في البطانة الغربية وحول منطقة التراجمة وكبوشية وشرقها، وانتشرت هذه الثقافة حول نهر عطبرة، تتجانس محتوياتها الأثرية أحياناً وتتباين أحياناً أخرى، كما أظهرت الاختلافات الجغرافية تأثيرها في اختلاف البنية الأثرية ولعبت البيئة والمناخ وطبيعة الأرض الدور الأعظم في نشؤ تلك المستوطنات وانهيارها. (Geus.1984, Marks and Mohammed-Ali.1991, Haaland and Magid.1995 and Sadig.2008 -2010).
على الرغم من وفرة الأدلة الأثرية الداعمة للتكهن بحجم مستوطنة العصر الحجري الحديث وطول عمقها التاريخي في موقع قلعة شنان؛ ما زالت الأسباب التي أدت إلي انهيارها وحجبت تطورها دون أن تصبح مدينة ودولة ذات حضارة، أمر غامض؛ كما أن عدم الامكانيات المعملية في تحليل وتوريخ بعض البقايا الأثرية يمثل عائقاً في تفسير قضايا مهمة لهذه المستوطنة خصوصاً توريخها معملياً والتعرف على نوعية الحيوانات والنباتات التي اعتمد عليها إنسان المنطقة، مدجنة أم برية، وهذه هي المسائل التي تعكف منهجية الدراسة عليها في المواسم القادمة، إضافة إلي محاولة التعرف على الروابط الثقافية للموقع بمثيلاته في بقاع السودان الأخرى وعلاقته بالفترات السابقة واللاحقة له، في محاولة لصياغة رؤية علمية مدعمة بالتحاليل المعملية عن أهمية مستوطنة العصر الحجري الحديث في قلعة شنان ودورها في كشف عجلة التطور الثقافي في تاريخ السودان القديم. 

No comments:

Post a Comment