Wednesday, November 14, 2012

الدراسات الاثنوآركيولوجية في السودان بقلم الأستاذة نهى عبد الحافظ nuhaabdelhafiz@hotmail.com
ارتبط العمل الأنثروبولوجي في السودان بالعمل الآثاري منذ تأسيس أول إدارة متخصصة بالعمل الآثاري في السودان، وهى الإدارة التى وضع لبناتها الأولي كروفوت Crowfoot عام 1904 وأعطي منصب محافظ الآثار بالإنابة “Acting Conservation of Antiquities”، وقد خصصت لها مساحة من مباني وإدارة كلية غردون التذكارية. وقد استمر هذا المنصب حتى عُين آركل في عام 1938 فأصبح المنصب هو “مفوض الآثار وعلم الإنسان Commissioner of Archaeology and Anthropology”. واستمر التعامل مع المادة الأنثروبولوجية والأثرية تحت إدارة واحده حتى يومنا هذا. فالقيام بالأبحاث الاثنوغرافية وتقديم كافة المساعدات للباحثين وطلاب ودارسي التاريخ القومي ومدهم بالمعلومات الآثارية والأنثربولوجية والمتحفية هو من مهام وواجبات الهيئة القومية للآثار والمتاحف، وإن يبدو أن اهتمام الهيئة بالعمل الآثاري قد أزداد على حساب العمل الأنثروبولوجي. ففي تقرير عن أداء مصلحة الآثار والمتاحف في الفترة مابين (يونيو 1951 – 1952) الذى قدمه ب.ل شيني P.L Shinnie ورد فيه تقرير عن صيانة العينات الاثنولوجية وحفظها، وفي تقرير أعمال مصلحة الآثار والمتاحف القومية للفترة (1 يناير 1988 – 1 يناير 1990) وهو تقرير أعده أسامه عبد الرحمن النور أورد فيه تخطيطاً لمشروع المسح الاثنوغرافي والآثاري لعموم السودان كأحد مشاريع الهيئة، وذكر متحف السودان القومي الاثنوغرافي كتابع لقسم المتاحف. ] تقارير الهيئة القومية للآثار والمتاحف لعامي 1952و1990م .[

ترجم هذا التكامل بالتسجيلات الاثنوغرافية التى قام بها آركل والتي نمثل لها  بمقالتيه :

"The Baza Festival in Jebel Meidob " و"Darfur Pottery " اللتين نشرتا في مجلة السودان في رسائل ومدونات S.N.R العددين (21) و(22). كما رافق حملات إنقاذ النوبة إجراء مسوحات أنثروبولوجية، نُشرت نتائجها الأولية في مجلة كوش Kush العددين (12) و(13). ويسير العمل الآن بنفس النهج في حملة إنقاذ المناطق المتضررة بقيام سد مروي، وإن كان قد تطور بحيث أفرد له مجال لعمل أبحاث اثنوأركيولوجية منفصلة إلى جانب عمل مسح اثنوغرافي وفلكلوري وهو النشاط الذى قام به الفريق الإنجليزي - الألماني بقيادة بافل وولف Wolf وبمشاركة من جامعة شندي بمنطقة أمري لموسم ديسمبر 2002- فبراير 2003، الذى لم تُنشر تقاريره حتى وقت كتابة البحث.

كما استُخدم التناظر الاثنوغرافي لتفسير أو لمحاولة إيجاد الحلول لبعض القضايا التى قد واجهت المهتمين بالآثار السودانية، ومن الأمثلة المبكرة مجهودات شيني في رسم صورة لمباني موقع سوبا شرق الأثري، حيث قارنها بالمباني المعاصرة في محاولة لفهم العوامل التى تتداخل في تشكيل الموقع الأثري  Shinnie 1961 :79 . كما استخدمه أيضاً في محاولة لفهم عملية صناعة الفخار اليدوي في الموقع نفسه حيث ناظرها انطلاقاً من ملاحظات جمعها من حلة شريف الواقعة إلى الشمال موقع سوبا شرق Shinnie Ibid: 81، وأشار أيضاَ في مقاله "مذكرات شخصية" المنشور في كتاب "History of African Archaeology" إلى أنه من الذين استعانوا بالتناظر الاثنوغرافي قبل بروز علم الاثنوأركيولوجيا منهجاً منفصلاً. [ مقابلة – عبد الكريم:2004 ].

استخدم كروفوت أيضاً التناظر الاثنوغرافي في كتابه “Island of Meroe” في تفسير نمط الاستيطان السائد في جزيرة مروي الأثرية، وذلك قياساً علي النمط السائد في ذلك الوقت. كما استخدم آدمز التناظر الاثنوغرافي أيضاً في أكثر من مقال من أبرزها مقاله المنشور عام 1976 بعنوان “Meroitic North and South” الذى نُشر في العدد الثاني من مجلةMerotica ، حيث حاول تفسير نمط إنتاج الفخار اليدوي وذلك المصنوع بالعجلة وقام بوصف نمط إنتاج الفخار المصنوع بناءً على التناظر الذى قام به بأنه نمط إنتاج مركزي، أما اليدوي فقد وصفه بأنه إنتاج محلي يصنع بواسطة النساء.

كما استخدم خضر عبد الكريم التناظر في تحقيق فرضيته التى طرحها في مواجهة فرضية آدمز القائلة بأن منطقة البطانة والبطانة الغربية ذات إمكانيات زراعية محدودة وهى فرضية شيدها علي أسلوب الزراعة المكثفة وهو الأسلوب المتبع في المناطق التى تعاني من قلة الأراضي الصالحة للزراعة وهى صفة قلما توجد في أفريقيا ذات الأراضي الزراعية الواسعة، فالأسلوب المتبع فيها هو ما يعرف باسم زراعة الحريق. قام خضر عبدالكريم بعمل خرط لأنواع التربة بالبطانة وقاسها مقارنة مع الأراضي الزراعية على النيل وتوصل إلى أن حركة المزارعين من ضفاف النيل إلى منطقة البطانة واضعين في اعتبارنا عدم استقرارهم طويلاً بها يفسر لنا عدم وجود مستوطنات صغيرة في منطقة البطانة وليس شح الأراضي الزراعية كما أشار آدمز. ولتأكيد هذه الفرضية فقد نفذ إحصائيات للحبوب في منطقة البطانة والتي كانت ذات إنتاجية عالية Abdelkarim-1984

أما الدراسات الاثنوأركيولوجية المتخصصة في السودان فإن من أبرزها الدراسة التى قام بها آيان هودر في الفترة مابين (1978- 1979) في منطقة جبال النوبا، وهى الدراسة التى ضمنها في كتابه “Symbols in Action” عام 1982. ومن الدراسات الجديرة بالاهتمام الورقه التى قدمها كندال Kendall في المؤتمر الخامس للدراسات المروية بروما عام 1984، بعنوان “Ethnoarchaeology in Merotic Studies”، التى نشرت في العدد العاشر من مجلة Meroitica وهناك أيضاً رسالة ربيكا برادلي لنيل درجة الدكتوراة والمنشورة في العدد الثالث عشر من مجلة Meroitica، إلى جانب بعض الدراسات الأخرى مثل المسح الذى أجراه مارتين فيتزينريتر Martin Fitzenreiter  لتركيب المنازل المنشور في العدد السابع عشر من مجلة Meroitica، ودراسة نتالي توبيرتNatalie Tobert عن الزغاوة بدرافور بعنوان “The Ethnoarchaeology of the Zaghawa of Darfur”، ودراسة إلزا كليب Else Johansen Kleppe وسط مجموعة الشلك بعنوان”Religion Expressed Through Bead Use : An Ethnoarchaeological study of Shilluk Southern Sudan”، التى هدفت فيها إلى التعامل مع وحدات الثقافة المادية والنظام الثقافي الاجتماعي الذى أنتجها، وهدفها في هذا توضيح العلاقات الأساسية بين مظاهر النظام الثقافي الاجتماعي ومظاهر التفكير المادية، وركزت في دراستها هذه على القيم الرمزية والعقائدية للخرز في السياق الثقافي لمجموعة الشلك في محاولة لتفسير عدد من المعطيات الأثرية التى نقبت في مواقع أثرية بالقرب من مدينة الرنك. Kleppe 1986: 78-90. ومن الدراسات التى نشرت بواسطة باحثين سودانيين وإن لم تكن الوحيدة دراسة صلاح محمد أحمد المنشورة في مجلة كوش العدد السابع عشر بعنوان “التركين هل هو وجبة نبتيه؟”.

2-1 دراسة هودر النساء، النجاسة والمدافن وسط النوبا “Dirt, women and burial among the Nuba”

تناول هودر عملية الدفن عند كل من المورو والمساكين، وهما من فروع نوبا الجبال، ويعتمد كل منهما علي الزراعة بشكل مكثف حول معسكراتهم وتربية الخنازير والأبقار والأغنام والخراف. قام هودر وفريقه بعمل سجل اثنوغرافي ولغوي لكل من القبيلتين. امتدت الرقعة الجغرافية لدراستهم تقريباً حوالي 650 كلم وزاروا حوالي 73 تجمعاً سكانياً وجمعوا منها معلومات حول الاقتصاد، والثقافة المادية، وتداخل العلاقات الاجتماعية، وعادات الطعام، وإجتناب النفايات، وعملية الدفن، كما قاموا برسم عدد من المدافن.

أظهرت نتائج دراستهم أن لـ المورو والمساكين إحساس قوي بالنظافة والطهارة، وأن المصدر الرئيس للنجاسة عندهم هو دم الحيض والخنازير، وأنهم يخافون من الإصابة بالنجاسة عبر اختلاطهم بالنساء أثناء فترة الحيض وبالخنازير، لأن هذا التدنيس سوف يؤثر سلباًُ على غلالهم، كما ربط المورو الخنزير بالنساء والرجال بالماشية.

كما وأن شعب المورو يركز على الطهارة والنظافة بشكل أكبر بفصل الخنازير عن الرجال بينما لا نجد مثل هذا التركيز عند المساكين الذين يدعون حيواناتهم تهيم وتخرج فضلاتها وسط مجمعاتهم السكنية. ولتلافي الإصابة باللعنة جراء التدنيس فقد علق كل من المورو والمساكين عظام ماشيتهم جوار مخازن غلالهم وهى في حالة المورو تعلق داخل المخزن، وفي حالة المساكين فيعلقونها بجانبه من الخارج. فسر هودر هذه العادة بأن شعب النوبا يعبر عن اهتمامه بمنطقة أو شئ معين مثل الغلال باحاطة حدوده بشكل طقسي.

أما عن مدافن المجموعتين فهي تقع بالقرب من مناطق إقامتهم، وهى مقسمة إلى مجموعات اجتماعية منعزلة عن بعضها. وتعبر المدافن عن اهتمام مقدر بالتمييز ما بين، الجنس، والعمر والمكانة الاجتماعية عند كل من المورو والمساكين. وأن ملازمة المدفن للتلال المشتركة بينهما يؤكد نظاماً وراثياً طور عند القبيلتين عبر الأجيال، ويواصل هودر ليبرهن أن المدافن هي بينة توضح العلاقة بين الموت، والغلال، والخصوبة وهي أشياء معبر عنها في :

التشابه الواضح في شكل المدافن ومخازن الغلال.

استخدام الأواني لتغطية مداخل المدافن ومخازن الغلال عند المورو.

استخدام الرماد لتغطية المعزين واستخدامه أيضاً في طقوس أخرى مرتبطة بعملية دفن الموتى، خاصة إذا عرفنا أن كوم الرماد مرتبط عند النوباوي بالخصوبة ورمز للقوة والاستمرارية.

تقرير قديم يتحدث عن تغطية جثث موتى مجموعات نوباوية أخرى بجلد الخنازير. المصدر Hodder 1980: 125-184

2-2 دراسة كندال ” الاثنوأركيولوجيا في الدراسات المروية” Ethnoarchaeology in Merotic studies

قسم كندال ورقته إلى قسمين رئيسين إلى جانب المقدمة والخلاصة. تناول في الجزء الأول منها تعريف مصطلح الاثنوأركيولوجيا وأهدافه ومناهجه التقليدية، أما في الجزء الثاني فقد تناول ما أسماه الاثنوأركيولوجيا غير المادي”Ethnoarchaeology : non materialist”  حيث قام بتطبيق عدد من البيانات الاثنوغرافية في الدراسات المرَّوية وخصص لها ثلاثة مواضيع وهى الأعمال الفنية والاثنوأركيولوجية, الاثنوغرافيا – وتفسير الفن القديم، إلى جانب استخدام الاثنوغرافيا في تفسير النصوص القديمة.

كرس كندال ورقته للإشارة أولاً إلى إمكانية تطبيق الدراسات الاثنوأركيولوجية لخدمة الآثار السودانية والكثير الذى قد تقدمه بوصفها مفاتيح لحل قضايا البيئة القديمة ونفاذ بصيرة داخل الأوضاع الاقتصادية والسياسية.

قدم كندال عدداً من التطبيقات نختار منها تحليله لآنية كارانوج وهى القطعة الموجودة بمتحف القاهرة تحت الرقم (JE 41017)، وهى عبارة عن آنية نحاسية وجدت في ضريح نائب الملك المرَّوي المعروف باسم مالوتون Maloton بموقع كارانوج الأثري، بها صور تعرض النمط الرعوي في بلاد النوبة المرَّوية، حيث احتوى المشهد على قطية (كوخ) من شجر السنط، وقد تمركز المشهد أمام القطية وتظهر فتاة عارية أمام مدخل القطية وأمامها طبل ومن أمامها جلست سيدة عارية الصدر والتي تبدو محور المشهد، وقد ثنيت قدما السيدة تحتها وأمامها صف من خمس سلطانيات شراب نصف دائرية ويدها ممدودة لترحب بالراعي الذى وصل مع أوعية تحوي لبن، ومن خلف السيدة عارية الصدر يقف رجل آخر يبدو أنه زوجها وقد أومأ للراعي الثاني أن يصب المزيد من اللبن ومن خلفهم تظهر ثمانية أبقار وثوران وعجل يرضع من إحدى الأبقار.

ولتحليل هذا المشهد فقد لاحظ كندال عدة عناصر فيه، أولها شكل القطية المدببة، والتي تعرف باسم “التُكل” والشكل البيضاوي الذى يعلوها، وهو شيء يمكن أن نعرف معناه بواسطة الملاحظة المباشرة، أو الاستعانة بالمصادر الاثنوغرافية بأنه عبارة عن بيضة نعام فقد سُجل من قبل، أنه يوجد في قمة سقف “التُكل” شكل سلة تستخدم عشاً لطائر “اللقلاق الأسود” الذى يعود إليه سنوياً في شهري مايو ويونيو، وفي حالة عدم بناء الطائر لعش فوق “التُكل” توضع ثلاث أو أربع بيضات إلى جانب حلية من ريش النعام في شكل منتصب في قمة رأس السقف.

أضيف أيضاً أن التونسي أورد في وصفه لمنازل أهل دارفور نمطاً يعرف باسم “السكتاية”، وهى كما وصفها كقبة الخيمة إلا أنها طويلة ورفيعة من أعلى، وأن أهل المنطقة يأتون ببيض النعام ويثقبون في كل بيضة ثقبين عند محورها، ويدخلون من خلالها عوداً، حتى إذا أصبح في العود ثلاث بيضات أو أربع من بينها كرة من الفخار الأحمر ثبتت من أسفل على إبريق من صناعة الكيرا، وينصبونه على قمة القبة. ومن نمط المنازل أيضاً وصف “التكلتي” وهى من الأعلى تبدو كنصف كرة وقائمة على قوائم من الخشب، أما الكرنك فهو مثله إلا أنه قائم على أربعة قوائم خشبية ويضع السلطان  بيض النعام على “السكاتية” و”التكلية” و”الكرانكة”، ويكسو أعلاها بثياب حمراء تتميز بها عن غيرها. (التونسي، 1965: 202 – 203).

وصف التونسي للتكل

أورد كندال أيضاً وصفاً عن قبائل الشلك بأنها تبني برج بيض النعام لمعاني مقدسة، حيث نجد أنهم يضعون بيضة نعام واحدة مع رأس رمح أو حربة بحيث تثبت البيضة بطعنها برأس الحربة فوق قمة القطية وهى توضع في العادة في القمة الناتئة من مزار أو مقام الإله ملك الشلك “نيكانج Nyakang” وبشكل مشابه لهذا في القطية المبنية بدون أبواب فوق قبور ملوك الأنواكKendall 1984:30

استخلص كندال من هذه الشواهد الاثنوغرافية أن وضع البيضة فوق القطية هو مؤشر تقليدي إلى أن صاحب المنزل ذو منزلة اجتماعية عالية أو ملكية أو حتى إلهية كما عند الشلك والأنواك، حيث جرت العادة على أن توضع بيضة النعام فوق قمة أكواخ الأشخاص المهمين. وأورد كندال إمكانية أن تكون أهمية هذه الأكواخ قد جاءت من مدى غناهم مثل المك والعجوز عند الشلك، حيث أن مظهر غناهم وامتيازهم لا يكون في حجم وطريقة بناء الكوخ بل بكم الماشية التى يملكونها.

العنصر الثاني الذى لاحظه كندال في المشهد هو آنية اللبن التى أمام السيدة، والتي ناظرها بشكل آنية اللبن المستخدمة في منطقة جنوب كردفان، فهي على شكل سلة من السعف المجدول بشكل جيد ومكثف بحيث لا تسمح بتسرب السوائل منها وهى مشابهة للإناء أو الدلو الذى رسم في وعاء كارانوج، وهذا النوع من الآنية ما يزال يستخدم حتى الآن عند قبائل مختلفة مثل الكبابيش والبجة والشلك. يعمل أهالي منطقة جنوب كردفان على سد ثقوب هذه السلة بأن تنقع في ماء يغلي مباشرة بعد أن تجدل لقفل ثقوبها، أما الشلك فإنهم يسدون ثقوبها بواسطة تغطيتها من الخارج بعد أن تبلل بالماء بواسطة دقيق الذرة ولا تغسل هذه السلال أبداً ولهذا فإن اللبن لا يحفظ بها طويلاً. أما الآنيات الخمس التى رصت أمام السيدة فقد رجح كندال أنها عبارة عن قرع جاف وهى شائعة الاستخدام في السودان.

بهذا توصل كندال إلى تحليل مفاده أن القطية المزينة ببيضة النعام وسلة اللبن وقرعة الشراب هي عناصر تقليدية من عناصر الثقافة المادية التى من المحتمل عدم بقائها مما لا يمكن من تتبعها داخل السجل الآثاري، إلا أنها تظهر للعيان من خلال هذا العمل الفني القديم، وهى لا تزال موجودة الآن في شكل مماثل يمكن التحقق منه عن طريق الملاحظة الاثنوغرافية وبالاستعانة بالمدخل الاثنوأركيولوجي الذى يحاول أن يربط ما بين البقايا المادية المنقب عنها والسلوك الإنساني المرتبط بها. وكمحاولة منه لتفسير السلوك الإنساني المقدم في هذا المشهد الفني فقد قام كندال برصد ملاحظات عن مظهر النساء البدينات الموجودات في المشاهد النوبية القديمة والكتابات التى تصور ملكة بلاد بونت Punt، وملكات مروي، فإن الملاحظ أن البدانة كانت سمة تقليدية تدل على الجمال والمنزلة الاجتماعية والغنى. وقد استمرت بقايا هذه المعايير القديمة حتى فترة سنار، فقد ذكر أن آغا أسوان لديه زوجتان إلا أن أحبهما لديه هي الأولى، فهي الأجمل بالمقاييس التقليدية لأنها مفرطة البدانة. ومن التقاليد الحالية في السودان تجتهد النساء لزيادة وزنهن قبل الزواج، وفي الجزء الشرقي لبحر الغزال نساء قبيلة البنقوBongo  كلهن يجتهدن في زيادة وزنهن لكي يصبحن بشكل ملكات بونت.

لهذا فقد اقترح كندال أن ما تفعله السيدة في إناء كارانوج هو أنها تعمل على زيادة وزنها عن طريق شرب الحليب تحت رعاية زوجها ذي المكانة الاجتماعية الرفيعة خاصة وأن حجم الزوجة عند المجتمعات الرعوية الأفريقية لا بدَّ وأن يتناسب ويدل على مدى كبر القطيع الذى يملكه زوجها Kendall-Ibid: 28 – 34

حاول كندال أيضاً وباستخدامه للدراسات الاثنوأركيولوجية توليد نظرية أثرية من تحليله وتفسيره للفن القديم ومقارنته مع الحالات المشابهة في البيانات الاثنوغرافية كما طبق في تحليله لمشهد هرم الملكة أماني شخيتو الهرم (البجراوية 6)Kendall – Ibid:34-41

وفي دراسته للشلوخ والوسمات القبلية لاحظ أن من المعتاد عند شعوب السودان، كما في أغلب أفريقيا الاستوائية، شلخ الوجه بصورة مميزة لإحداث سلسلة من الندوب المميزة، وتختلف هيئة هذه الندوب من مجموعة قبلية إلى أخرى وتعتبر علامةً تزين المظهر و/أو لها خاصة تحمي من أمراض العيون، والصداع وبعض أمراض الرأس الأخرى. كما لاحظ أيضاً أن أنواعاً متعددة من هذه العلامات والشلوخ هي من زمن بعيد جداً لأن نفس هذه العلامات يمكن أن ترى على وجه الأفارقة الممثلين في الفن المصري القديم منذ القرن الرابع عشر قبل الميلادي، وأن استمرارها موثق في الفن المرَّوي والفن التقليدي اللاحق. اقترح كندال أن المسح الاثنوغرافي والفني والتاريخي والمعملي المفصل لهذه الشلوخ قد يمدنا بوسيلة للتعرف على السلالات العرقية في بقايا الهياكل العظمية المكتشفة أثرياً. كما يمكن أيضاً أن تساعد على معرفة المناطق التى سُكنت في العصور القديمة من جانب مجموعات قبلية هم أسلاف المجموعات الحالية.

وجد كندال خلال رصده للندوب القبلية الأثرية، أن من أكثر الرسوم غرابة للأفارقة في كل الفن المصري هى تلك الموجودة في مقبرة حور محب في سقارة، وهى تمثل أسرى ذوي ملامح زنجية يوجد بينهم صفوف من الزنوج طوال الساقين بعضهم واقف والآخر يجلس القرفصاء في مجموعات على الأرض، ويظهر بعض الزنوج وقد صفف رأسه في شكل ضفائر من الشعر المجدول وهو نمط تقليدي للشعوب الحديثة في شمال غرب كينيا وجنوبها، وآخرون لهم شعر غزير. هذا ما جعل كندال يقترح أنهم أقرب إلى الشلك والنوير أو الدينكا. ومن الملاحظات أيضاً أن الزنوج الواقفين هم أطول بكثير من الحراس المصريين وهى إحدى سمات القبائل النيلية الحديثة التى تتميز بالطول غير العادي. ومن الملاحظ أيضاً في هذه الرسوم العناية التى أولاها النحات المصري للإشارة إلى ندوب الوجه، والتى نجدها لدى أغلبية الأسرى، وتبدو ندوب غالبيتهم في شكل أربعة أو خمسة خطوط أفقية على جباههم كما عند قبائل النوير والدينكا الحديثين، وتبدو بعض هذه الخطوط ممتدة من وسط الجبهة كالوتر وهو يشبه نتوء دينكا بور الحديثين. والأكثر غرابة أنه في كل رسوم الوجه هناك خطوط على الأنف والشفاه توضع في شكل ثنيتين أو ثلاث، وقد تبدو هذه الخطوط في شكل شلوخ أكثر منه طيات للخد، وهى في هذا الشكل تشبه شلوخ نوبة الشمال الحاليين، حيث نجد أن هناك اثنين من الأسرى لديهم عدة خطوط قصيرة على خدودهم.

إن عادة دمج الشلوخ على الجبهة والخدود في وجه واحد ليست معروفة في الوقت الحالي، ولكنها ظهرت في هذه الرسوم وهو شيء لا يمكن تفسيره على أنه خلط أو اشتباه وقع فيه الفنانين المصريين، فقد ظهر مثل هذا الدمج أيضاً في منحوتات نادرة تعود إلى الفترة المرَّوية. ظهرت الشلوخ على الجبهة مثل شلوخ القبائل النيلية في رسوم في بيت في الأقصر وفي وسط المصارعين في مدينة حام. كما وضحت منحوته لرأس نيلي من مدينة هابو ستة شلوخ بالجبهة مطابقة لشلوخ النوير. كما ظهرت أيضاً أخاديد مزدوجة في نحت لرجل كوشي بقاعدة تمثال رمسيس الثاني في الأقصر، حيث ظهر في أحد خديه أخدودان واسعان بصورة لافتة للنظر.

هناك ندرة للرسوم التى تحمل ندوباً في فترة نبتة وأوائل العهد المرَّوي وبالمثل لم يوجد رسم يعود للفترة الرومانية في مصر لوجه يحمل ندوب وقد أرجع كندال ذلك إلى عدة أسباب هي :

·   قد تكون الشلوخ نادرة في الفترة من عصر المملكة الحديثة حتى العهد المرَّوي، ولو بشكل نسبي في النوبه وقد تكون محصورة في المناطق الجنوبية البعيدة.

·   قد يكون التشليخ شائعاً في النوبه ولكن في العصر المرَّوي كان مستهجناً من قبل أفراد النخبة الذين يتبعون العادات الفرعونية.

·   قد يكون التشليخ في العصور القديمة علاجياً فقط مثل ما هو شائع الآن ولهذا فهو أقل شيوعاً وندرته تنعكس في غيابه عن الفن التصويري.

·     قد يكون شائعاً جداً ولكنه ولأسباب غير معلومة يندر توضيحه في الفن أو.

·     قد تكون خطوط التشليخ وصفت بالألوان التى لم تدم طويلاً.

وبسبب واحد من هذه الأسباب السابقة فإن شلوخ الوجه لم تظهر مرة أخرى في الفن التصويري حتى أواسط القرن الأول قبل الميلاد عندما ظهرت في واحدة من رسوم الملكة أماني شخيتو المنحوتة في المعبد الجنائزي لهرمها وهى تأخذ شكل ثلاثة خطوط على خد الملكة الأيسر وهى تبدو أشبه بالنمط الحديث، ومن الغريب أنه لا تظهر مثل هذه الندوب على الخد الأيمن للملكة على الجدار المقابل. ونسبة لهذا فقد اقترح كندال أن الملكة المرَّوية التى وصفت من قبل سترابو بأنها نوع مسترجل من النساء عوراء هي أماني شخيتو وليست أماني ريناس، وبهذا يفسر كندال وجود الشلوخ على خدها الأيسر فقط بأنه أضيف إليها علاجاً لمرض عينها كما هو شائع الآن الشلخ الصدغي لمريض العيون.

ونسبة لعدم وجود شلوخ أخرى في رسوم ملكية معروفة فقد اقترح كندال أسباباً لهذا وهى :

·     قد يكون هذا الاختفاء بسبب أن الشلوخ لا تستخدم في العادة للملوك والأسرة المالكة.

·     أو أنها تستخدم عادة ولكن لا تمثل في الرسوم.

·     أو أنها ترسم في العادة وتلون بخطوط من الألوان على الجص الأبيض الذى اختفى بمرور الزمن.

لا يمكن الاستفادة من هذه الشلوخ والندوب عند دراستنا للموميات حيث أن الندوب والشلوخ لا يمكن التعرف عليها إلا في جثمان يكون جلده محفوظاً بشكل جيد جداً مثل جثمان امرأة تم الكشف عنه في كوبان ويعود للمجموعة الثالثة Group-C وقد كانت مغطاة بوشم وشلوخ على جسدها، وفي عكشة وجد عدد من الجثث المحفوظة بشكل جيد من العهد المروي وعليها وشوم عديدة على جسدها وأطرافها وجبهتها واثنان منها تحملان ثلاثة أوشام على هيئة نقاط في شكل رأسي وسط جبهتها، وهى ندوب تكرر مرة أخرى في أحد تماثيل البا Ba من الجرانيت Kendall – Ibid : 47-54

3-3 التركين هل هو وجبة نبتة ؟

قام بنشر هذه الدراسة صلاح محمد أحمد في مجلة كوش العدد السابع عشر 1998م، وهى دراسة أقيمت لحل معضلة أثرية واجهت البعثة العاملة في منطقة كرمة، حيث تم العثور خلال فترة الثمانينات على بقايا عدد من المنازل بمدينة كرمة البلد التى تعود إلى فترة نبتة وتم العثور بداخلها على العديد من الأواني الفخارية التى تحتوي على كميات من عظام الأسماك التى تم وضعها على طول حيطان غرفة من الواضح أنها مخصصة للتخزين، حيث لا يوجد لديها مدخل إلا من الطابق الأول عن طريق سلم. كانت معظم هذه الجرار قد وضعت مكسورة القاعدة في وضع مقلوب داخل آنية أخرى وضعت مسبقاً داخل الأرض، وأبعادها هي حوالي 40 سم في الارتفاع ومحيط فوهتها حوالي 14 سم. كما وجدت جرة من النوع نفسه وبقاعدة مكسورة في غرفة مركزية في منزل صانع الفخار في فترة نبتة تم حفره في كرمة البلد، واحتوت أيضاً على كميات من عظام الأسماك.

عند دراسة العظام التى وجدت في منطقة كرمة بواسطة المختص في علم الحيوان التابع للبعثة السويسرية بكرمة إلى جانب تحليل الأسماك المملحة وفي محاولة لفهم أدق لحقيقة هذه الجرار، تم إجراء استبيان اثنوأركيولوجي في الموسم (1987 – 1988). قسم الاستبيان إلى أربعة أجزاء، يحتوي الجزء الأول على أسئلة متعلقة بالشخص المسئول، والجزء الثاني يختص بوسائل الحصول على السمك وفترة الصيد والجزء الثالث يختص بصناعة “الفسيخ” و”التركين” وأنواع الأواني المستخدمة في صناعة كل منهما ومكان وفترة الحفظ، وتعامل الجزء الرابع مع الوجبات والاستهلاك وقد استهدف الاستبيان المجموعات النوبية الرئيسة الثلاث : المحس والسكوت والدناقلة، ووزع على ست مناطق في بلاد النوبة (كرمة، و واوة، وصلب، وصادنقا، ودنقلا وجبل البركل).

جاءت نتيجة الاستبيان أن معظم هؤلاء يستخدمون قطع القماش القديمة لصيد السمك وهى عادة ما تكون ثوباً نسائياً سودانياً قديماً، ويشارك في عملية الصيد جميع أفراد الأسرة. وتتم عملية صناعة الفسيخ من الأسماك متوسطة الحجم التى تحفظ بكاملها بعد فتحها ونظافتها وملئها بالملح وتترك في إناء من الفخار لمدة 3 – 6 شهور، وفي الفترة الأخيرة استخدمت الآنية المعدنية والبلاستيكية في عملية الحفظ وعادة ما تؤكل الأسماك كما هي أو يتم طهيها مع البصل وصلصة الطماطم. ومعظم الذين تم سؤالهم لا يعرفون صناعة الفسيخ بل يشترى جاهزاً. أما التركين فهو عبارة عن منتج من حفظ السمك في شكل عجين كثيف الحجم، وقد تم ملاحظة ثلاث طرق لإعداده وهى :

·   نظافة السمك وخلطه بالملح داخل إناء فخاري ويخلط بجريدة نخل حتى يتحول السمك إلى شكل عجينة ثم يحفظ المنتج تحت الشمس.

·   تنظيف الأسماك الصغيرة من الخارج وتفتح الأسماك الكبيرة، وبعد أن تترك تجف تحت الشمس لعدة ساعات توضع مع الملح في شكل طبقات وتخلط بجريد النخل حتى تصبح عجينة والتي توضع داخل جرة وتحفظ في الظل.

·   نفس الطريقة الأولى ولكن بعد الحصول على العجينة يتم تصفية المادة وتغلى عظام الأسماك حتى تستخلص مادة بيضاء (الكالسيوم) يضاف المستخلص إلى التركين ويتم حفظ الجرار عادة في فناء المنزل ولا يحفظ التركين في الشمس إلا في حالات نادرة.

الأواني التقليدية المستخدمة هي جرار فخار ذات أفواه ضيقة يتراوح ارتفاعها ما بين 40 – 60 سم. أما في مناطق الإنتاج الكبرى مثل جبل أولياء فإن التركين يحفظ في آنية معدنية. وتستمر عملية الحفظ فترة  6 – 12 شهراً حسب كمية الملح المضاف إلى السمك.

وبناءً على نتائج هذا الاستبيان فقد أُسُتنتج أن البقايا التى وجدت بالجرار الأثرية هي بقايا “تركين” وليست بقايا “فسيخ” لعدة أسباب وهى أنه في حالة الفسيخ فإن السمك يحفظ بكامله ويؤخذ بكامله دون ترك بقايا داخل الآنية، إلى جانب أن الفسيخ يصنع من الأسماك متوسطة الحجم أما التركين فهو يصنع من الأسماك الصغيرة وهى مشابهة للبقايا الأثرية. إلى جانب عدم معرفة النوبة بصناعة الفسيخ حتى الذين يأكلونه على عكس التركين مما يدل على أن صناعة الفسيخ تمثل عادة وافدة على منطقة النوبة، وقد أُستنتج أيضاً أن الطريقة القديمة لصناعة التركين تتم بواسطة وضع الأسماك داخل جرة من الفخار ووضع هذه الجرة بشكل مقلوب داخل جرة قديمة مثبتة أصلاً في الأرض بعد كسر مؤخرة الجرة الأولى. صلاح، 1998: 18 – 22

2- 4 دراسة ربيكا برادلي “البدو داخل السجل الأثري”Nomads in the Archaeological record

أجرت برادلي هذه الدراسة خلال شتاء عام 1979. كانت البداية بأن قامت بعمل مسح آثاري لمنطقة البطانة اشتركت فيه مع خضر عبد الكريم بهدف عمل مسح لمواقع البطانة، لاستخدام هذه المادة في  رسالة كل منهما، حيث يدور موضوع دراستيهما حول إيجاد تفسير لنمط توزيع المواقع المرَّوية في منطقة البطانة. قامت برادلي بتفسير هذا التنميط من خلال الاستعانة بعمل مقارنات اثنوأركيولوجية، اختارت أن تكون منطقة جمع بياناتها الاثنوغرافية في إقليم كردفان وتحديداً في منطقة الكبابيش، وقد اختارت العمل في غرب النيل تحديداً وسط الكبابيش دون الإقليم الشمالي أو إحدى المناطق القريبة من النيل بسبب أن هذه المواقع قد تأثرت بالثقافة الحديثة مما غير كثيراً في أنماط ثقافتها المحلية، هذا إلى جانب أن منطقة دار الكبابيش تقع في نفس خط العرض الذى يمر بمنطقة جزيرة مروي، ولأنها ذات ظروف مناخية مشابهة لتلك الموجودة في منطقة جزيرة مروي، وذلك بسبب أن كل منهما متأثرة بظاهرة مناخية معروفة باسم “ITCZ” وهى اختصار لمصطلح  ”Intertropical Convergence Zone” ، وهو الحزام الذى تلتقي فيه الجبهات الهوائية القارية الشمالية الجافة بالجبهات الهوائية الجنوبية الرطبة، وفي فصل الشتاء في السودان يكون هذا الحزام المناخي في المناطق الجنوبية البعيدة فتسوده الرياح الجنوبية الجافة وعندما يتحرك هذا الحزام شمالاً يجلب معه الهواء الحار الرطب الذى يسبب فصل الخريف في أواسط السودان ويقف هناك حتى تدفعه الرياح الشمالية إلى الجنوب مرة أخرى، وهكذا جيئة وذهاباً يؤثر ذلك على أواسط السودان بجلب فصل الأمطار؛ أما في أقصى شمال السودان فلا تتأثر بنفس المقدار ولهذا لا تهطل أمطار في شماله بشكل يذكر حيث يتلاشى تأثير الرياح الجنوبية الرطبة شمال عطبرة.

تستمر ظاهرة – ITCZ – لفترة طويلة وقد اهتمت ربيكا بدراسة منطقة دار الكبابيش في فترة الجفاف هذه وقد قدمت لها منطقة دار الكبابيش الأنموذج الذى كانت تبحث عنه وهو أنموذج التمازج ما بين البدو الرعاة والمزارعين الحضر الموزعين في نمط لم يتغير كثيراً عن ذلك المذكور في السجلات الاثنوغرافية القديمة، مع تفاعل بسيط لها مع المناطق النيلية الذى حدث في الفترة المهدية والمشكلة الوحيدة التى واجهتها هي : أي منطقة من دار الكبابيش تذهب إليها؟ وقد حلت هذه المشكلة بأن وجدت طالباً جامعياً من منطقة الكبابيش هو أحمد صالح أحمد الذى استأجرته لكي يكون دليلها ومساعدها في البحث خلال فترة إجازته، فرافقته إلى قريته التى تدعى جيروب 43 – 31: 92 – Bradley

أما الهدف من إجراء مثل هذه الدراسة هو أن لديها تشككات حول بعض الافتراضات حول توزيع المواقع في جزيرة مروي، ودور الرعاة في المملكة المرَّوية، وتوزيع مواقعها. فآدمز وغيره من الآثاريين قد قللوا من إسهام الرعاة في الاقتصاد المرَّوي ما عدا اللاحقين مثل حاكم وهيكوك Haycock الذين تحدثوا قليلاً عن إسهام الرعي. فكانت ملاحظتهم أن الاقتصاد المرَّوي هو اقتصاد حضري زراعي، يعتمد بصورة رئيسة على النيل، مع نسبة قروية متناثرة من المزارعين الذين احتفظوا ببعض الحيوانات في بعض المواقع البعيدة عن النيل مثل البعصة، وأم أسودة، والنقعة، والمصورات، ومرابه، وجبل سورات، والتي كانت في الوقت نفسه مناطق لمراقبة الأودية الخصبة التى تستخدم في الزراعة، وتوفر حدوداً محصنة لحماية المناطق الزراعية من هجوم البدو. هناك من تبني هذا الموقف وأضاف إليه أن منطقة البطانة الشرقية لم تعكس آثارياً وجوداً مروياً بها. بل وقد ذهبوا للدعوة بمراجعة الرأي القائل بأن الحفائر التى وجدت بالبطانة دليل على الوجود المرَّوي بها.

وبعبارة أخرى ربما لا يكون الحفير من السمات المرَّوية المؤكدة، لأنه وإن وجد في شرق البطانة فإن المعلوم أن المرويين لم يسكنوا البطانة حيث لم تسجل أي مواقع إقامة لهم هناك. ومن الواضح أنهم كانوا يتبعون أدلة سلبية من نوعها وهى إذا كانت البطانة الشرقية تحت السيطرة المرَّوية يكون من المتوقع وجود مواقع سكنية بنفس مواصفات مواقع الإقامة المرَّوية المكتشفة على طول النيل. وسؤال ربيكا الذى تطرحه هنا هل كانوا يتوقعون النمط الصحيح من المواقع، ولأن الأدلة السلبية هي مستهجنة وسيئة السمعة وصعبة الاختيار، وفي حالات غياب الدليل فهل من المقنع أن نقبل بالدليل السلبي في هذه الحالة بالذات، فمن الصعب العثور على أدلة لوجود البدو بداخل السجل الآثاري، بالإضافة إلى حقيقة أن البدو الرعاة لا يهيمون بدون هدف في الخلاء لأن هذا يتضمن مخاطر عديدة، فالرعاة في الحزام المناخي كما في وسط السودان يتبعون استراتيجية منتظمة ومحددة، ففي موسم الجفاف يتمركزون في نقاط تمركز صغيرة تسمى “الدمر” بقرب مصدر مائي دائم كالآبار والخزانات الطبيعية والأنهار وتظل منازلهم في مكان واحد لمدة 4 – 6 شهور، في شكل مخيمات تسمى الدار وهى عبارة عن منازل مجتمعة تحوم القطعان في المراعي بالقرب منها مصادر للمياه، ومن الملاحظ أن “الدمر” مشاركة ما بين الحضر المزارعين الذين يسكنون بصورة دائمة وهو ما تسميه ربيكا بحزام تداخل البدو والحضر “N/S interaction zone”.

عندما تسقط الأمطار تبدأ الصحراء في إخراج الحشائش وتمتلئ مجاري المياه المؤقتة والخزانات الطبيعية، ومن ثم يصبح البدو بدواً مرة أخرى تاركين الحفير خلفهم في “الدمر”، فالكبابيش على سبيل المثال يدورون غرباً آلاف الأميال بعائلاتهم وقطعانهم ورعاتهم ليستفيدوا من الأرض الخضراء ويتركون موارد “الدمر” لموسم الجفاف لكي لا تستنفذ مواردهم وفي نهاية موسم الأمطار يبدأون في العودة والتمركز مرة أخرى في ملجأ “الدمر” وهكذا تستمر الدورةBradley –Ibid: 15 – 30

برز هنا تساؤل لربيكا وهو ما هو نمط البدو الرحل “Transhumance” الذى من الممكن أن يكون في منطقة جزيرة مروي في العهد المرَّوي. فمن الواضح من المصادر التاريخية والحديثة أن إقليمي السافانا الغنية والفقيرة في الكربة والإقليم شبه الصحراوي في البطانة كانا متحدين بصورة وثيقة الصلة ومرتبطين ومتكاملين بنفس نمط البدو الرحل الملاحظ في المساحات الموجودة بالغرب في إقليم كردفان، وموقع الكربة هو عبارة عن طبقة صخرية شكلت خزاناً دائماً للمياه، بها كمية محددة من المراعي، وأن البطانة لم تكن تستخدم إلا في موسم الأمطار. أما في موسم الجفاف فتتراجع القطعان التى كانت في البطانة إلى الكربة وإلى الأراضي التى غمرها فيضان نهر النيل أو عطبرة ويتداخلون في عدة صور مع السكان المستقرين هناك. وقد تساءلت ربيكا مرة أخرى عن الكيفية التى يبدو بها هذا النمط في السجل الآثاري، وقد بدا لها أن هناك تمركزاً من المواقع في الكربة وأراضي الفيضان وقلة نادرة في البطانة. ولكي تختبر هذا ولكي تطور أنموذجاً منطقياً فقد لجأت إلى الاستعانة بعلم الآثار السلوكي “Behavioral Archaeology” الذى وفر لها العديد من الأدوات التى كانت تحتاج إليها مثل:

·   هل للحركة الموسمية للبدو أثرٌ داخل السجل الآثاري، وهل كانت هناك أوقات في السنة يترك فيها نشاطهم أثراً أكبر من الأوقات الأخرى؟

·   إذا كان هناك حضر موجودون أيضاً، إلى أي مدى تختلف أنماطهم الآثارية عن أنماط البدو الرعاة في المنطقة نفسها وكيف تبدو أنماطهم المجتمعية والمشتركة؟

·  إلى أي مدى يستطيع السجل الآثاري للمجموعة البدوية أن يعكس توزيع الثروة داخل المجموعة؟ فبيوتهم وقبورهم فقيرة جداً لدرجة أنها لم تلفت انتباه الآثاريين، ولكن قد يكون قطاع كامل من السكان يستثمر كل ثروته في الحيوانات وليس في صناعة الخزف الملون أو الملابس والحلي المزركشة، فكيف تكون هذه الأخيرة واضحة الملامح بعد ألفي عام؟

·   ما مدى مطابقة الأنماط الأثرية المستقرأة للمجموعات الحضرية/البدوية للأنماط الأثرية الحقيقية في جزيرة مروي، هل كان الفراغ الكبير الذى رسمه هنتزا في البطانة حالة حقيقية للأدلة السلبية، أم ما كانت تتوقعه ربيكا؟ وماذا عن الطبيعة الغريبة للمواقع في الكربة، تلك المعابد والحظائر المشتتة دون نسق معين ؟ Bradley –Ibid: 31 – 43

بدأت برادلي عملها الميداني في دار الكبابيش باثني عشر فرضية متعلقة بالاختلافات المستنبطة بين التجمعات البدوية والحضرية، فحاولت جمع بيانات اثنوغرافية لها مثل هل التجمعات المادية أكبر عند الحضر من تلك الخاصة بالبدو، وهل توفر التجمعات الحضرية فهرساً يعتمد عليه بطريقة أكبر، وتوفر وضعاً اقتصادياً منزلياً يعتمد عليه البدو بطريقة أكبر. هذا إلى جانب فرضيات أكثر تعقيداً مثل ما هي أسباب الاختلاف في مساحات المواقع، وماهى العوامل المحددة لتوزيع المواقع، ما هي العوامل التى تحدد محتويات كل موقع. وهدفها من كل ذلك هو توفير أداة لمعرفة كيف تختلف عمليات التكوين “Formation Processes” بين نظامي البدو والحضر. وقد أخذت عينة لدراستها وهى خمسة منازل حضرية وخمسة منازل بدوية وقد تضمنت دراستها قائمة طويلة وهذا ملخصها :

(أ) مورفولوجيا الموقع

*      خرائط تقريبية للمنزل ووصف وصور لكل المنازل متضمنة سمات بناء حظائر الحيوانات.

*   Catchments data وهى بيانات عن مجاري مياه الأمطار متضمنة مياه الآبار والتخلص من الفضلات المنزلية والمزارع والمراعي والأسواق ومصادر الطحين.

*      مواقع وهيئة المداخل.

(ب) التقديرات المنزلية

*      البيانات الديموغرافية : العمر – النوع – العلاقة برب الأسرة – المسؤوليات اليومية.

*    الاقتصاد : موارد المنزل بلغة النقود – مساحة الأراضي الزراعية – حجم القطيع بالنوع وأشياء أخرى.

*  والأثاثات المنزلية : بكل أنواعها الجلدية – الخشبية – الفخارية وقد اهتمت بالوظيفة أكثر من غيرها وقد حاولت معرفة الفخار ووظيفته الحالية والسابقة ومكان استخدامه ومكان تخزينه والأشياء التى حلت مكانه من حيث الوظيفةBradley –Ibid: 74 – 105

3-3-1 النتائج

جاءت أولى نتائج عملها الميداني عن كيفية توزيع مجموعات الكبابيش لأنفسهم خلال السنة بين فصلي الجفاف والمطر. فالدار تعتبر مركزاً للحياة في فصل الجفاف ويكون فيها النساء والأطفال وقليل من الحيوانات خاصة الماعز، وتكون المنازل في شكل مجموعة من الخيام المرتبطة بصلة القربى بالقرب من بئر، وفي العادة تذهب عدة نساء لجلب الماء بالقربه “وهى أداة مصنوعة من جلد الماعز تحفظ بها مياه الشرب” من البئر. أما أثاثهم وأدواتهم في فصل الجفاف، فإننا نجد أن الدار ليست النوع الوحيد من مواقع “الدمر” عند الكبابيش فأغلب منازلهم لها (أو تشارك في) مخزن عبارة عن قطية مبنية من مواد هشة قابلة للتلف، حيث تخزن الأشياء الثقيلة من الشمال المنسوجة للخيام والأواني التى لا تستعمل في أثناء ترحالهم وتترك فيه خلال فصل الأمطار، ولا يُخشى عليها من السرقة. ولهذا ليست كل ممتلكات المنزل مكتملة في الدار، فبعضها يكون في المنزل وقد يصبح لقي أثرية في حالة عدم العودة إليها. ولكن من الملاحظ أنها توجد في فترة الدمر في منطقة حزام التداخل البدوي الحضري.

توجد أيضاً مخيمات الرعاة الذين يسعون بالمجموعات الرئيسة للحيوانات والتي تكون بعيدة عن الدار. بالإضافة إلى المساحات الرعوية الرئيسة وهى بعيدة قليلاً من الآبار للحفاظ على المراعي القريبة للحيوانات وهى في طريقها للسقيا في كل بضعة أيام. أما الرجال فحركتهم أوسع من النساء وخيامهم مؤقتة للحد البعيد فهم يأتون إلى الدار لأخذ مخزون الغذاء، ويذهبون للتسوق لحاجات المنزل.

أما الإيحاءات الآثارية التي خرجت بها ربيكا من هذا، فهي أن الدار والمخزن سوف يبدوان في السجل الآثاري قليلاً، أما خيام الرعاة ومواقع الآبار فلن تبدو في السجل الآثاري وأن أغلب السلوك المنتظم لمجموعات البدو لن يظهر خاصة الذى يدور في الدمر، وهو المكان الذى تستقر فيه المنازل أطول فترة في السنة. وهو المستقر الذى يبقى فيه الناس بصورة دائمة حتى الرحل.

وفي فترة الأمطار لا يتحرك المنزل مع المجموعة الرئيسة للقطعان التى تجول وتسافر بعيداً بحرية أكثر، ويبدو بوضوح أنه هو وقت المرح للبدو في العام حيث تتوفر المياه والمراعي فيتجمعون ويتصرفون بصورة اجتماعية بالقرب من مجاري المياه المؤقتة وخزانات المياه الطبيعية في الصحراء، ولكنهم يصبحون أقل إمكانية للكشف عنهم أثرياً، فحتى المنازل تتحرك بكثرة كل بضعة أيام ولهذا تكون معسكراتهم سريعة الزوال.

3-3-2 عمليات تكوين السجل الأثري عند البدو Formation processes

في أنموذج شيفر العام عن S.C و S.A نجد أن البدو مفقودين حيث لا نجد ما يتلاءم معهم وهذا يعود عند ربيكا إلى سببين بصورة عامة، أولاً لأن للبدو نماذج مادية فوق الآخرين لأنهم يعيدون تدوير أدواتهم “recycle” ويجددونها “renovate”، إلا أن لديهم سلسلة منتظمة لإعادة التدوير اللاحقة في شكل واسع أكثر من الحضر، وبعبارة أخرى إن القدر عند البدو لديه فترة استخدام أكثر غنىً وتنوعاً من حياة القدر عند الحضر. ثانياً أن هناك أثنين من عمليات S.C التى هي مهمة جداً في حياة البدو من الصعب جداً أن تشاهد في كل حالات الحضر هي التخزين الذى ذكر سابقاً إلى جانب نطاق ترحالهم”Translocation”  وبوضع هذه الحقائق معاً نجد أنفسنا في وضع معقد.

3-3-3 الأنموذج الأثري

ولتطبق ربيكا محصلة عملها الميداني على مشكلتها الرئيسة وهى توزيع المواقع بجزيرة مروي، فقد عملت على استخراج مراتب متسلسلة لموقع نظامي موجود في نمط مؤسس على نتائج الكبابيش، وبعد ذلك استخرجت منه كيف تتكون وتبدو المواقع الآثارية، وكيف تتوزع مع مواقع الحضر الواسعة عند مصادر المياه الرئيسة مع كل المباني العامة والخاصة المتينة والمباني الخاصة والعامة غير المتينة، وقد رسمت جميع خطوط طرق البدو ومواقع معسكراتهم في موسم الأمطار مع النقاط المؤقتة للمياه ومع عدم وجود آثار للمباني. وقد استعملت كل هذا في الظروف الموجودة في جزيرة مروي.Bradley –Ibid: 198 – 213

أما النمط الذى تتنبأ به من حيث بيانات المواقع المتوفرة بصورة حقيقية، التى اختبرتها، هو ان هناك نظاماً من مواقع الإقامة الرئيسة على طول نهر النيل مع مباني من الطوب اللبن ومعابد من الحجر، وأيضاً لدينا في موقع الكربة وادٍ مع معابد حجرية، وفي شرق البطانة حفائر مع عدم إمكانية وجود مبان خاصة متينة ما عدا في موقعي النقعة والمصورات، وبالبطانة نجد مصادر مياه مؤقتة مثل المويات (وهي مناطق واسعة ومنخفضة كما وصفتها ربيكا) إلى جانب الحفائر التى ذكرها هنتزا التى لا ترافقها بقايا أثرية.

كل هذا أوحى لربيكا أن تنميط المواقع في جزيرة مروي هي بكل معنى الكلمة متماسكة مع عنصر أساسي من البدو، الذين هم عنصر متكامل وجزء هام من السكان الكوشيين، وان موقع الكربة هو موقع تداخل ما بين البدو والحضر وهو ما أسمته “N/S interaction zone”، وان الحفير والمعبد هما عنصران عامان مُستخدمان على أقل تقدير من قبل الرعاة البدو، وفي فترة الأمطار يستخدمون الوادي في الرعي، وأن البطانة هي المراعي الهامة في فترة الأمطار بالنسبة للرعاة الكوشيين. والحفائر التى تحدث عنها هنتزا هي مواقع إقامة الكوشيين في فترة الأمطار.Bradley –Ibid: 214-215

الخلاصة

إن مسيرة علم الاثنوأركيولوجيا في السودان لا تختلف عن نظيرتها في العالم، فقد تطور أيضاً عن استخدام التناظر الاثنوغرافي وتشكل حسب نظريات علم الآثار حتى أصبح منهجاً منفصلاً وقائماً بذاته. من هنا نؤكد أن الهدف من هذا العرض هو تقديم نماذج للدراسات الاثنوأركيولوجية التى تمت لتفسير الآثار السودانية، والإشارة إلى النتائج الواعدة التى يمكن أن نخرج بها من استخدام هذا النوع من الدراسات.


الهوامش

صلاح محمد أحمد 1997، “التركين هل هو وجبة نبتية ؟”- كوش العدد (17) -الخرطوم.

محمد بن عمر التونسي 1965، تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان – المؤسسة العامة للتأليف والنشر – القاهرة.

AbdelKarim Khidir 1984, Merotic Settlement in the Central Sudan – BAR International series – Oxford.

Bradley Rebecca 1992, Nomads in the archaeological record – Merotica No ’13′ University of Humboldt Press – Berlin.

Hodder I. 1980, Symbols in action: Ethnoarchaeological studies of material culture – Cambridge University press – New York.

Kendall T. 1984, Ethnoarchaeology in Merotic studies – 5th international conferences for Merotic studies – Rome

Kleppe Else J 1986, “Religion Expressed Though Bead Use: Ethnoarchaeological study of Shilluk Southern Sudan ” – Words and Objects –Edited by Gro Steinsland – Norwegian University Press.

Shinnie P.L. 1961, Excavation in Soba- Sudan antiquaties service No ’3′ – Khartoum.


No comments:

Post a Comment